استمع إلى الملخص
- التضامن يعمل كرابط بين الأفراد لتجاوز الأزمات، معتبرًا الأخلاق والتعاون المتبادل جزءًا لا يتجزأ من الإنسانية في مواجهة التحديات.
- رورتي يرى التضامن ضروريًا لتحقيق توازن اجتماعي وتقليل الفجوات الاجتماعية، محذرًا من أنه بدون جهود جماعية فعلية، قد لا يكون كافيًا لبناء مجتمع أكثر عدالة وإنسانية.
سؤال يفرض نفسه كلّما توالت أحداث الحرب ومآسي العالَم وأزماته المتعدّدة في الصحّة والبطالة والهجرة والفقر وسوء التغذية والتهميش وبكلمة واحدة قسوة الحياة، ولا سيما أنّ بعض المُنظّرين السياسيّين يُشِيدون بالليبرالية، باعتبارها أفضل وأنجع نظام عرَفه التاريخ البشري. فهل تستطيع "إتيقا" التضامن الحدّ من وحشية النظام الليبرالي وأيديولوجيته في عولمة ليس اقتصاد السوق فقط، بل إفرازاته السلبية على دول ومجتمعات تفقد كل يوم مكانها في التاريخ وفي الجغرافيا وفي السيادة أيضاً؟ وهل بمقدور هذه الإتيقا (فلسفة الأخلاق) من التضامن أن تجيب عن السؤال: ما معنى أن يعيش المرء في عالم اليوم وتميط عن أذهاننا صورة عبثية العالم وبشاعته؟
بقي طموح فلسفي يُراود الفيلسوف الأميركي ريتشارد رورتي (1931 - 2007)، في تقليص حدّة القسوة عن العالَم، وذلك أملُه الكبير، وهو من اعتقَد بأنّ الأمل أحسن من المعرفة، في أن يكون العالَم أقلّ فظاظة. فهل تبدّد هذا الطموح ونحن نشهد بعد سبع عشرة سنة من رحيله صورة أُخرى أشدّ بشاعة وأكثر وحشية من كلّ مشاهد الحروب والجرائم التي عرفتها البشرية حتى اليوم. إن ما اقترفته "إسرائيل" في عُدوانها على غزّة منذ ما يزيد على ثمانية أشهر يفوق كلّ الحروب وحشيّة وقسوة.
يُراهن رورتي، وهو العارف بخبايا مُعضلة الليبرالية ومآزقها، على إتيقا التضامن للتقليص من وحشية الليبرالية. في تصوّره فإنّ كلّ الأخلاق التي نتمسّك بها أو نطمع في أن تكون، أداة الإنسان للتقليل من الشرور في هذا العالَم، إنما هي سنَد وواجهة إنسانية أو آخر ما تبقّى للإنسان من ملاذ في هذا الوجود حتى لا يهوي ويسقط في متاهة الوجود العبثي. فهل يحقّق التضامن انتشال البشرية من مستنقع ازداد تلوّثاً بكل المآسي وتضاعفت آفاته، وأوّلها الحروب؟
تزداد الحاجة للتضامن خلال الأزمات ويُصبح واجباً أخلاقياً
للبشر في وصف العالم، بحسب رورتي، طريقتان: منهم مَن يبحث عن الحقيقة والموضوعية غير آبِه ببني جنسه في سبيل بُلوغه هذه الغاية وإن التمَسها ووجدها في مصدر خارج الإنسان؛ في حين يسعى آخرون للتضامن مُقرّين فيما بين أفراد الجماعة الإنسانية من تسانُد يحتّم عليهم هذا النوع من التواصل النافع. بين بحث عن الحقيقة والموضوعية، وآخر يتّجه صوب العدالة والتضامن يكرّس الكُتّاب طرائقهم في وصف العالَم وسرد الوجود.
من اللفظ ذاته solidarité نقرأ فكرة الصلابة solide والتشابك (الذي تفيده ضمن وضماناً وتضامُناً بمعنى تفاعُل بين عناصر وأطراف يُحيل على تمتين أواصرهم ليس من الداخل فحسب بل من الخارج كذلك، كغلاف يوفر لهم حماية ودعامة)، وإليها يرمي التضامن حينما تكون شكلاً من الإسمنت، الذي يعمل على وصل وربط علاقات الأفراد في نوع من الرباط المُتعاضد في حالات الشدّة وفي حالات الرخاء أيضاً، وإن كانت إتيقا التضامن مطلوبة أكثر في أثناء الأزمة كما استعان بها ليش فاليزا، رئيس بولندا بين 1990 و1995، وأخذ من اسمها عنواناً لحركته العمّالية "تضامن" Solidarność، فإنّ مُبتغاها الدائم تجاوز الوضع المعقّد والمتأزّم بأقل ضرر من خلال الفعل التضامني، أي إن التضامن كفعل اجتماعي يغدو نوعاً من الواجب الأخلاقي والاجتماعي المُتبادل في تعاون الأفراد فيما بينهم ومساعدة بعضهم بعضاً.
كان دأب النظام الليبرالي ولا يزال الرهان على إصلاح نسبي كفيل بإدامته والبقاء على هيمنته عبر إدراج تعديلات بسيطة وسطحية تعزّز من إطالة عمره، وهي الإجراءات التي حافظت على بقائه على الرغم من التنظيرات التي كانت تتنبّأ بزواله، لكن وللحقيقة التاريخية فقد تفطَّن الليبراليُّون إلى الخطر المهدّد لكيانهم فعملوا على تحسين وتحصين صلتهم بالعمّال (تقليص ساعات العمل، زيادة الأجور، تحسين ظروف العمل...) وهو ما ساهم في جوّ من الاستقرار وامتصاص غضب الطبقة العاملة الذي قد يُفضي إلى التمرّد والاحتجاج والثورة.
في الوقت الذي يسعى فيه الليبرالي للعمل على ضمان بقائه، يسعى العامل من جهته للتضامن. فبين الضمان والتضامن تكمُن حقيقة الوضع الإنساني الحديث، فبين ربّ عمل لا يهمّه في علاقته سوى تأمين ما يفترض تحقيقه من ربح وعامل يعلم أن تحصيل حقوقه لن يكون إلّا عبر التضامن.
دعا رورتي في مشروعه الفلسفي إلى تأكيد مبدأ التضامن سنَداً كفيلاً للحدِّ من مساوئ النظام الليبرالي أو للتقليل من سلبيّاته. فالنظام المذكور بعدما تشكّل نظاماً وتبلور إطاراً لتنظيم المجتمع الحديث اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، فرض نفسه وتسيّد المشهد، حتى بات في عُرف بعضهم "نهاية للتاريخ" (هيغل وفوكوياما)، وهو آخر ما انتهت إليه البشرية طوال تاريخها، بيد أنّ الأزمات التي ظلّت تُلازمه أفرزت جملة مشكلات وسلبيات كان يتوجّب تجاوزها، وبدا أن مبدأ التضامن قد يساعد في الحدّ من ظواهر سلبية لطالما لازمَت الليبرالية وجعلتها عُرضة لانتقادات كبيرة.
راهنت الليبرالية على إصلاح نسبي كفيل بإدامة هيمنتها
في مجمل كتاباته، كان رورتي يدعو إلى التحلّي بروح تضامنية التي تسمح دون شكّ بتجسيد نموذج المشروع المجتمعي اليوتوبي الذي تُتوِّجُه الحرّية ويتحقّق فيه شيءٌ من التضامن الإنساني الكفيل بتقليل من قسوة العالَم وفظاظته.
لقد شكّل التضامن هاجساً لفيلسوف البراغماتية الجديدة، وهو يُدرك أنّ دفاعه عن الليبرالية -وهو العامل المشترك الذي يتقاسمه مع نُخبة من الفلاسفة المعاصرين أمثال تايلور وبرنشتاين وآخرين- لن يكتمل دون سدّ الثغرة أو بالأحرى الثغرات التي تفرزها الآليات الليبرالية الرأسمالية، من فرط في الحرّية الاقتصادية كالملكية الخاصة والربح اللّامحدود والاحتكار وفرض قوانين اقتصاد السوق وغيرها من أدوات الهيمنة لأرباب العمل والمال وسطوة الإدارة وأجهزتها البيروقراطية على الحياة العامة.
في ظلّ وضع اجتماعي خاضع لاقتصاد كهذا، يتوقّع أن تطفو إلى السطح اختلالات في النسيج الاجتماعي، مُفرزةً ظواهر من التفاوت والتهميش والإقصاء لفئات اجتماعية واسعة يتّسم وضعُها بالهشاشة والانهيار، فتتسبّب في بَعْث أجواء من التوتر الاجتماعي يستحيل معها بلوغ الاستقرار والسعادة بالنسبة إلى الفئتين الفقيرة والثريّة. ويعترف فرانسيس فوكوياما، وهو المدافع عن الليبرالية الكلاسيكية بما فيها من تفاوتات وتهديدات للنسيج الاجتماعي، إذ يقول في كتابه الليبرالية واحتقاناتها: "كما أنّ الليبرالية تمثّل الأساس الأيديولوجي لاقتصاد السوق، وبالتالي فهي في أذهان الكثيرين متورّطة في الإجحافات التي تنجرّ عن الرأسمالية. والعديد من نشطاء جيل Z الشباب القلقين في أميركا وأوروبا يرون أنّ الليبرالية منظور تعدّاه الزمن، 'نظام' عاجز عن إصلاح نفسه".
وهو الشيء نفسه الذي رآه رورتي في الليبرالية من ثغرات، محاولاً التماس البديل في إتيقا التضامن كآلية لتخطّي عقبات الأيديولوجيا الليبرالية وتدارك أعطابها.
وبالتالي فلا مناص من إيجاد مبدأ كفيل بتحقيق نوع من التوازن الاجتماعي الذي ارتآه ريتشارد رورتي في التضامن. فكيف كان تصوّره له؟ وما هي أُسسه الأخلاقية؟ وما علاقته بمبادئ أخلاقية أُخرى؟ وهل سيحقّق الوحدة المنشودة بين طابع فردي يتّسم بالبحث عن الحرّية وآخر اجتماعي يدعو إلى العدالة في الطبيعة الإنسانية؟ وما علاقة التضامن بنموذج المثقف السّاخري (الشاعر والفيلسوف) الذي كان مثالاً لدى رورتي ونموذجاً لمجتمع برجوازي ما بعد حداثي؟ وهل لمبدأ التضامن أبعاد ماركسية تُستشفّ من تربية رورتي اليسارية وطموحاته في مجتمع فاضل، عادل، حرّ؟
في تصوّر رورتي، إنّ من فضّلوا البحث عن الحقيقة، وهُم فلاسفة الواقع، اختصروا التضامن في الموضوعية، وبرَّروا ذلك بإبستمولوجيا تقرب الواقع من الطبيعة البشرية التي هي جزء من الطبيعة ككلّ، وقالوا بأن العِلم الحديث كفيل ببلوغ هذه المطابقة التي هي الحقيقة ذاتها، بينما من ارتأوا مسلك العدالة وهم فلاسفة البراغما، أي أولئك الذين اختزلوا الموضوعية في التضامن، ورأوا ألّا حاجة لتبرير إبستمولوجي أو ميتافيزيقي لتصوّرهم ويكفي أن تكون عبارة وليام جيمس هي معيارهم "فالحقيقة بالنسبة إلينا تكمن في ما هو جيّد لنعتقده"، وفي هذا ما يُحيلنا إلى التذاوت وإلى فكرة اندماج فعلي للفرد في المجتمع وذلك يفسّر فقط وفقاً لرورتي بـ "الرغبة في إجماع متذاوت قدر الإمكان، والرغبة في توسيع مرجعية الـ 'نحن' إلى أقصى حدّ نستطيعه".
لذا يُقرأ تصوّر رورتي نفسه على أنه نوع من تذاوت الفيلسوف الساخري، أو نموذج للمثقف الساخري في مجتمع برجوازي ما بعد الحداثي بات يُعرف بالنيوليبرالي، لا يُمكن لهذا المثقّف التمرّد عليه تماماً لأنه هو من منَحه فرصة الحضور والتعبير ومكّنه من حرّيته المنشودة، وبالتالي تراه يُسدي ما عليه من ديْن تجاهه بأن يدعو إلى سدّ فراغاته وسلبيّاته عبر المطالبة بشكل من التضامن لن تكون دوماً تمفصلاته بيد المثقّف ولا بيد المواطن، بقدر ما يكون ذلك في الطبقة الأوليغارشية والمنظمات وجماعات الضغط وقوى المال والنفوذ المُوجِّهة للرأي العام نحو مزيد من الرتابة والاستهلاك. وعليه فإن إتيقا التضامن كما اقترحها رورتي جيّدة من حيث الطرح النظري، لكنّها تبقى بعيدة التحقّق إن ظلّت من دون آليات التجسيد الفعلي لتضامن يتخطّى حدود التعاطُف كي يكون بمقدوره التقليص من وحشيّة نظام اقتصادي مشحون بكلّ نوازع الأنانية والفردانية والتحرّر المُفرط من كلّ قيود الحسّ المشترك وقيم الجماعة.
إن التضامن هو إحدى هذه القيم التي تجاهلَها الغرب الرسمي، وهو يصطفّ خلف "إسرائيل"، رأس حربة النظام الليبرالي العالمي، في حربها الهمجية ضدّ غزّة، في حين تحرّرت شعوبه وطلّابه وعمّاله بجرأة أخلاقية أكبر مندّدة بجرائم "إسرائيل" التي تجاوزت كلّ الخطوط والحدود في ملاحقة الفلسطيني لإبادته بتواطؤ غربي/ عربي، على وقع العالَم المتفرّج على المذابح والمجازر اليومية للأطفال والنساء والشيوخ وقتل عشوائي لكلّ مظاهر الحياة في غزّة. فهل يكفي تضامن الشعوب، وهي تجدّد أشكال تضامنها مع غزّة، دون الدول لقهر قوى الشرّ واللّاعدل والظلم ومجابهة أعداء الإنسانية؟
* باحث وأكاديمي جزائري