يعد نيقولا سيوفي واحداً من أوائل مثقفي وباحثي مدينة دمشق، الذين أتيحت لهم فرصة الاحتكاك مع الحضارة الأوروبية في أواسط القرن التاسع، واستفادوا منها أيما استفادة في تكوين وعيهم، مزاوجين بين معطيات الحضارة الناشئة في أوروبا، وبين جذورهم الحضارية العربية، فعبر دراسته للغتين العربية والفرنسية، وعمله مترجماً لسنوات طويلة قبل أن يصبح قنصلاً لفرنسا في أكثر من مكان، استطاع أن يحصل على ذخيرة معرفية نوعية عبّر عنها باهتمامات خاصة بالتاريخ العربي وبالآثار التي تعج بها منطقتنا، فكتب الكثير في هذا المجال، وجمع الكثير من المخطوطات واستطاع أن ينشر في واحدة من أهم المجلات الاستشراقية المعروفة في العالم وهي المجلة الآسيوية، إضافة إلى وضعه عدداً من الكتب المرجعية المتعلقة بالعراق الشمالي كونه عمل هناك قنصلاً لعدة سنوات.
ولد نيقولا بن يوسف سيوفي في 12 نيسان (إبريل) من عام 1829م في مدينة دمشق، واتصل بالأمير عبد القادر الجزائري، فقربه إليه واستخلصه واصطحبه في إحدى سفراته إلى باريس والقسطنطينية. وفي خزانة الوزارة الخارجية الفرنسية بباريس كتب كثيرة متبادلة بين الأمير المذكور والسيد سيوفي. وكان الأمير عبد القادر الجزائري قد ألف بباريس كتاب (ذكرى العاقل) وأهدى نسخة منه إلى نيقولا سيوفي، وكتب عليها بخط يده: هذه الرسالة العجالة ألفها كاتب هذه الأحرف بالتماس بعض أحبته بباريس، وأهديت منها هذه النسخة لعوض ولدي العزيز الترجمان، نيقولا سيوفي نفعه الله بالعلم، وفتح له أقفال الفهم، لما له علينا من حقوق الخدمة وحسن الصحبة.
في 27 صفر عام 1289هـ، [الموافق 8 أيار (مايو) 1872م]. والنسخة في خزانة يوسف اليان سركيس. عمل نيقولا سيوفي مترجماً في السفارة الفرنسية بدمشق في خمسينيات القرن التاسع عشر، ومنح الجنسية الفرنسية، بصورة فوق العادة، وذلك في 5 كانون الأول عام 1866م. وفي عام 1873م تم تعيينه في القنصلية الفرنسية في بغداد. ثم في عام 1875م نقل إلى القنصلية الفرنسية بحلب، وبقي فيها إلى عام 1877م ثم نقل إلى مثل هذه الوظيفة في القنصلية الفرنسية بدمشق. وفي 4 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1877م أصبح قنصلاً في الموصل، وأنعمت عليه الجمهورية الفرنسية في 12 تموز 1880م بوسام فارس فرقة الشرف Chevalier de la Légion Honneur.
وفي 5 كانون الأول 1889م عين بوظيفة قنصل من الدرجة الثانية، ومع هذا فقد بقي في الموصل يقوم بوظيفة القنصلية إلى 30 آذار (مارس) 1893م فأحيل إلى التقاعد، وأنعم عليه برتبة قنصل من الدرجة الأولى تكريماً له. وقرر الاستقرار في لبنان وسكن قرية (بعبدا) وبقي فيها حتى أدركه أجله في 20 كانون الثاني (يناير) عام 1901م. وفي هذه المرحلة زار الموصل الرحالة الفرنسي الشهير هنري بنديه عام 1885م والتقى القنصل سيوفي، حيث أشار إليه في أكثر من موضع من رحلته، فقد دعاه سيوفي إلى منزله هو ومن معه لتناول الغداء، وأهداه نسخة من كتابه عن الصابئة، وأخبره عن اكتشافه مسجد (السلطان لؤلؤ)، وقد كتب بنديه عن سيوفي: "نخرج باكراً لكي نلتقط بعض المناظر للموصل رغم فضول الكثيرين الذين يحيطون بنا، إثر عودتنا نمضي لدى السيد سيوفي الذي يستقبلنا بكل لطف كما كنا نتوقّع.
أصل مسيو سيوفي من دمشق عمل ترجماناً مدة طويلة للشيخ عبد القادر وكان له صديقاً، إنه متبحر باللغة العربية ويمتلك مجموعة ميداليات من أغرب ما يكون". كان نيقولا سيوفي مولعاً بالتاريخ وله وقوف على دراسة المسكوكات العربية القديمة، وأبحاث في المسكوكات تدل على خبرة تامة واستقصاء في البحث. وكان يستعين بنساخين من أهل الموصل ينسخون له الكتب الثمينة التي يجدها في خزائن الكتب الموصلية. فنسخوا له عدة كتب منها باعها لمتاحف أوروبا، ومن الكتب الفريدة التي حصل عليها سيوفي هو كتاب (ترجمة عربية لكتاب ديسقوريدس) في تصوير النباتات والحيوانات وخواصها. فقد كلف النساخ السيد مصطفى الصائغ باستنساخها عن نسخة قديمة كانت في المدرسة المحمدية بجامع الزيواني في الموصل، فاعتنى هذا باستنساخها ونقل صورها بغاية الدقة.
ثم إن سيوفي أخذ الأصل والنسخة الجديدة إلى دار يونس بك بن عبد الرحمن باشا الجليلي، متولي الجامع المذكور فأعجب يونس بك بخط النسخة الجديدة وجمال صورها، فعرض على سيوفي أن يحتفظ للوقف بها، وأن يأخذ سيوفي النسخة القديمة، وهي على ما يقال مكتوبة على رق، فوافق على هذا. وأهم آثاره المعروفة: كتاب "مجموع الكتابات المحررة في أبنية مدينة الموصل"، وكتاب "الصابئة اعتقاداتهم وعاداتهم"، وبحوث علمية حول النقود والآثار في العراق منشورة في الدوريات الفرنسية، بالإضافة إلى رحلته التي نتناولها في مقالنا.
في شهر أيلول من عام 1873 صدر قرار بتعيين نيقولا سيوفي قنصلاً في بغداد، وكان يومها في بيروت يعمل في القنصلية الفرنسة هناك منذ عام 1861م، أي في العام الذي أعقب الأحداث الأليمة التي ألمت ببعض مدن وجبال بلاد الشام، فغادر بيروت عن طريق البحر إلى طرابلس ثم اللاذقية ثم اسكندرونة، ومن هناك سلك الطريق البري مع حاشية كبيرة تضم عائلته وبعض رجال الشرطة ومجموعة من الأطباء النمساويين وغيرهم، وقد سلك الطريق القديم الذي اعتادت القوافل أن تسلكه فوصل إلى مدينة حلب ومنها انطلق إلى ديار بكر، حيث بدأت رحلته في نهر دجلة إلى بغداد.
في انتظار الكلك
يقول سيوفي: "هكذا صرفنا مدة ستة أيام في ديار بكر لانتظار الطوف (الكلك)، الذي نرغب أن نعطي بعض الشرح عنهُ لأنهُ ليس مألوفاً في أكثر الجهات، لكنهُ قديم الاستعمال في العراق، وهيرودت أبو التاريخ المولود عام 484 ق.م تكلم عنهُ عند ذكر سياحتهِ في بلاد بابل. فنقول: إن الكلك هو مَركَبٌ مُركَّبٌ من قربٍ ينفخ فيها لدرجة معلومة متوسطة، ثمَّ يشدُّ بعضها إلى بعضٍ شدّاً محكمّاً كهيئة سطحٍ، وتجعل أفواهها إلى الأعلى، ثم تستر بحشائش خضراء لحفظ رطوبة الجهة العليا منها التي لا تغمر بالمياه، وفوق الحشائش تمدُّ أخشاب من أصناف الدفوف أو غيرها، مما يقصد نقلها وبالأجرة من محلٍّ إلى آخر، وعلى هذه الأخشاب ينصبون مظلة في الوسط ليتظلل بها المسافر، ويضعون البضائع على الجوانب، ومن جهة المقدم والمؤخر تكون المجاديف مع الملاحين، حيث بواسطتها وبمساعدة جري الماء يسوقونهُ إلى المحل المقصود، وفي أثناء الطريق عند اشتداد الحرّ يلتزمون كل ساعة أو نصف ساعة بأن يرشوا الماء على القرب حذراً من التشقق فيخرج منها الهواء". ...
"وإذا نفد من أحدها يأخذ أحد الملاحين قصبة، وبواسطة إدخالها في فم القربة غب فتحهِ ينفخ مجدداً، ثم يربطهُ كالأول، وعلى هذا النمط تصنع هذه المراكب، ومنها ما يُعمل من مائة قربة، ومنها من ألفٍ بحسب الإرادة ومساعدة الماء، وهكذا يحملونها أثقالاً جسيمة ويستخدمونها في نقل البضائع وإرسالها إلى الجهات المجاورة النهر. أما الطوفان اللذان بُنيا لنا؛ فكان كلٌ منهما من مائة وخمسين قربة نظراً لقلة الماء، وكانت المظلة من قوائم خشبية مجللة من أعلاها ومن جميع أطرافها باللباد والقماش المشمع، ولها على الجانبين بابان وكانت الملاحون أكراداً".
يبدأ السفر في يوم الاثنين في 6 تشرين الأول (أكتوبر) عام 1873م. فيمرون من تحت جسر مركوز على جملة قناطر. وكان مسير النهر في وادٍ ليس بعميق، وأكثر المزروعات على ضفتيه كانت من البطيخ الأحمر المسمى رقِّي، والأصفر المسمى بقاوون، وبعد أن يمروا بالكثير من القرى النهرية يتوقفون في بلدة تدعى حصن كيفا. ويصفها لنا سيوفي بقوله: "بعد أن جلنا بأزقتها وأسواقها غير المستوية، نظرنا أكثر بيوتها وحوانيتها منقورة في الصخور، وبأعلاها قلعة متهدّمة لم يبقَ منها إلا الأبواب، فدخلنا الباب الأول ثم الثاني، وكلاهما من حديد، ونظرنا على الثاني كتابة عربية بها يذكر أنهُ أمر بهذا البناء سليمان بن غازي ولكن من دون تاريخ (ولعل سليمان المذكور من دولة بني ارتق ملوك ماردين وديار بكر أو من السلجوقيين).
ثم انتهينا إلى الباب الثالث فوجدنا على جوانبه كتابات كوفية مربعة محتوية على الشهادتين (لا إله إلا الله. محمد رسول الله)، وبعد أن نزلنا من القلعة دخلنا جامعاً قديماً متهدّماً لم يبقَ منهُ سوى بعض قناطر، وقد جعلوهُ مقبرةً وبه منارة جميلة جداً محفوظة من الخراب، وعليها أشغال وكتابات عربية دقيقة للغاية، ويُوْصَل إلى أعلاها بسلمين كل منهما عدد 38 درجة، وعلى شاطئ النهر من كل جهة دعامة مستندة إلى برجٍ مستدير، وعلى القاعدة السفلى من كل دعامةٍ رأينا ونحن في الطوف صوراً قديمة منحوتة ولا بد من أن هذه الدعائم كان عليها في الأزمنة السالفة جسر عظيم".
ويقول إن أهل حصن كيفا "يتكلمون العربية وهم عرب أيضاً. ثم نظرنا عن يسار النهر بإزاء القرية قبَّةً قديمة بها أشغال جميلة جدّاً ونقش مختلف الألوان، وإنما الوقت لم يسمح لنا لأن ننتقل بالطوف إلى تلك الجهة لنشاهدها كما يجب، لأن الملاحين كانوا يحبون العجلة ليقطعوا محلاً صعباً أمامنا قبل دخول الليل". ثم يتابعون سيرهم فيمرون بقرى كثيرة يتمكن سيوفي من إدراج أسمائها لعدم أهميتها. ويتابعون سيرهم بعد أن يمضوا ليلتهم في إحدى القرى فيمرون على نهر يدعى (بوطان) يصب في دجلة، ثم بعد الظهر يمرون في قرية جيلاكا، حيث يرون جملة نساء على الشاطئ للاغتسال وهنَّ عاريات بالكلية، ويقول: "يظهر أن هؤلاء الأقوام اتصلوا إلى هذه الدرجة من التوحش حتى تعرَّوا من أثواب التمدن". وبعد أن يمروا على عدد من القرى يتوقفون في محل مهجور وكان بالقرب منهم ثلاثة أطواف ومعهم جملة أكراد وهم قاصدون جزيرة ابن عمر، فبعد أن تناولوا الطعام حضر هؤلاء الأكراد إلى أمام طوفهم وأخذوا ينشدون ويرقصون ويضربون بالطنبورة. ويقول إن طربهم طبيعي خالٍ من التكلف. وبعد أن صرفوا معهم نحو ساعتين تركوهم.
في الموصل
يسيرون مجدداً في الطوفين ويقطعون الكثير من القرى على ضفة النهر إلى أن يصلوا إلى الموصل فيجدون الخواجا عبود الجزراوي ترجمان قنصل فرنسا في الموصل فينزلون عنده بضعة أيام لانتظار طوف كبير يحملهم إلى بغداد، وأيضاً بسبب حُمَّى أصابتهم بعد وصولهم بيومين، ومع ذلك زار سيوفي البلدة وتفرج على خورساباد ذات الآثار العظيمة المختصة بمملكة نينوى القديمة، التي كان قد اكتشفها موسيو بوطا أحد قناصل فرنسا في الموصل. كذلك زار نبع ماء كبريتي يدعى عين الكبريت، وموقعه بجانب المدينة. في يوم الجمعة 24 تشرين الأول (أكتوبر) ودّع سيوفي الخواجة برتير ووالدته، وقدم لهما الشكر عن حسن استقبالهما ونزل هو وصحبه في الطوف المبني من ثلاثمائة قربة لأنه كان واسعاً وملاحوه أربعة.
وفي طريقهم يشاهدون جملة عربان وقيل لهم إن رجلاً يسمى منلا طه يسأل إذا كانوا يسمحون له بالركوب في طوفهم بعض المسافة، لأنه أخو كاتب فرحان باشا شيخ عرب شمر، ومعه تلغراف إلى الباشا، فأجابوا طلبه وقبلوه بالترحاب. وحين يصلون إلى محل يدعى (مطق) يجدون على الشاطئ جملة أشخاص من عرب شمّر منهم شلال بن فرحان باشا رئيس القبيلة وحاكمها، والشيخ حسن شيخ عشيرة الجبور.
في ضيافة شيخ شمَّر
يقول سيوفي: "لقد حضر الجميع من طرف الباشا المومأ إليه ليكلفونا للعشاء عنده، ومعهم خيول لركوبنا، والسبب في ذلك منلا طه الذي ركب معنا قبلاً ونزل من الكلك قبل وصولنا بساعتين، وركب في البر ليخبر الباشا بقدومنا، وهكذا دعانا إلى محله الذي يبعد عشر دقائق عن النهر، فإتماماً لطلبه توجهنا، وعندما وصلنا إلى خيمة الباشا رأيناه أمامها فاستقبلنا بكل فرح وإكرام وأدخلنا إليها. وهي واسعة ومفتوحة الجوانب، وجميع مشايخ القبيلة جالسون على جانب من جوانبها، وفي وسطها نار مشبوبة، فجلسنا على فراش كان معداً لنا، وجلس الباشا حذاءنا وأخذ يظهر لنا الانعطاف والسرور من حضورنا إليه، ونحن أبدينا له مزيد التشكر".
ويضف: "ثم غسلنا أيدينا ومدّوا خوان الطعام، وكان عليه صدر من الرز مكلل بكمية وافرة من اللحم مع جملة صحون بها ألوان أخر. أما الباشا فطبقاً لعوائدهم بما يخص الضيافة العربية تمنع عن الجلوس معنا، وعندما كلفناه لذلك أجابنا (أنت المعذب)، وهي كلمة يسمون بها صاحب المحل، فشددنا عليه وأفهمناه بأننا لا نأكل إن لم يجلس معنا، فجلس وأخذ في أن يأكل بيديه على نمط العرب، فاقتدينا نحن به، أما الأطباء فبعد التجربة لم يمكنهم أن يأكلوا مثلنا، وكانوا يتمرمرون من عدم إمكانهم لذلك، بحيث يقدرون أن يقولون فيما بعد إنهم أكلوا مثل العرب، بل رجعوا إلى الملاعق..
وبعد العشاء صرفنا برهة من الزمن وكنا نتذاكر مع الباشا المذكور تارة بالتركية وتارة بالعربية، لأنه توجه إلى الأستانة العلية كما أفهمنا، وهناك تعلم التكلم بالتركية، وقد سررنا جداً من التعرف به لأنه لرجل شهم كريم الأخلاق متحل بمحاسن الصفات، وعند انتهاء الوقت ودعناه مقدمين له التشكر عما أبداه لنا من اللطف، وطلبنا منه بأن يرسل معنا إلى الطوف ولده شلال والشيخ حسن اللذين كانا قد حضرا لمقابلتنا، فأمرهما وحضرا ومعهما المنلا طه وابن الشيخ حسن".
بعد ذلك ارتحلوا من (مطق) ومروا بتل اعفر، وبقربها قلعة بنتها الدولة العثمانية حديثاً، وهذه القرية تخص فرحان باشا، ورأوا نهراً كبيراً يصب في دجلة يدعى (زاب أبي حمدان) وكان ماؤه أحمر فاستنتج الملاحون أن سببه انحدار أمطار في الجهة العلوية. ومنه بدأوا يشاهدون قطعان الخنازير البرية على الشاطئين لخلو المحلات من السكن، أما الملاحون فلم يتجرؤوا بأن يرسوا هناك لاستيحاش المحل، بل ساروا في الليل، إلى أن وصلوا إلى محل يدعى (أبا جحش) وكان به قوم من عرب الجبور. ثم يتابعون سيرهم ويسمعون عن وجود 40 لصاً من عربان عنزة يهجمون على الأطواف وينهبونها، ولكنهم ينجون منهم إلى أن يصلوا إلى بلدة تكريت المشحونة بالبضائع الوافدة باكراً من كركوك.
ويقول: "نزلنا لنرى البلد لاعتبارنا لها محلاً تاريخياً، وإذا هي قرية بسيطة وأهلها بزي أهل البادية تماماً، ولم نرَ فيها إلا أربعة حوانيت رأس مال أحسنها لا يزيد عن 200 غرش، ثم أعلمونا بأنه يوجد فيها قلعة، فتوجهنا إليها فلم نجد فيها غير أثر قليل، وتأسفنا على تعبنا بدون نتيجة".
من سامراء إلى بغداد
بعد ذلك يمرون على سامرّا، وهي قصبة ابتدأ ببنائها المعتصم ثامن الخلفاء العباسيين ودعاها سرّ من رأى، وذلك عام 220 للهجرة، كما يشرح سيوفي. ويقول إن أحد حراسهم أشار إلى ترعة عن يمين النهر، تجري مسافة 6 ساعات لسقي الأراضي واسمها نهر الدجيل، وعندها قوم من العرب، وقال لهم أيضاً إن المسافة من سامراء إلى بغداد أكثر من شاطئي النهر مرصوف. وصادفوا قارباً كبيراً من العجم كان ركابه في سامراء لزيارة مقام صاحب الزمان المهدي، وقارب آخر من الموصل راجع إليها.
ويمرون على قرية المعظم وهناك مقام الإمام الأعظم أبي حنيفة أحد الأئمة الأربعة، قبل أن يدخلوا بغداد ويشير إلى أن المسافة من قبل الكاظم إلى بغداد جميعها بساتين وغياض على الشاطئين، والمنظر جميل جداً ومدخل المدينة بهيج للغاية، وعلى الخصوص عند دخول الكلك إلى المدينة. والبيوت على الجانبين تطل على دجلة، الذي يقسم المدينة إلى قسمين أحدهما الكرخ على اليمين، والثاني الرصافة على اليسار.
ويقول عن بغداد: "أما حال هذه المدينة الآن فهو لسوء الحظ بعيد جداً عما كان في الأزمنة السالفة. لأنه بعد أن كره المنصور وهو ثاني الخلفاء العباسيين سكنى الهاشمية، وابتدأ عام خمس وأربعين ومائة في بناء بغداد، أضحت هذه المدينة مجمع العلوم والفنون ومحور التمدن، ولبثت على هذه الحالة زمناً طويلاً إلى أن ملكها هولاكو ملك التتر عام 656 للهجرة، وقتل المستعصم بالله السابع وثلاثين من الخلفاء العباسيين وأضرهم، ودام القتل والنهب في المدينة نحو أربعين يوماً ثم نودي بالأمان..
وكانت هذه الحادثة أكبر نكبة وأعظم مصيبة جرت على دار الخلافة ذات الجمال والجلال، وهدمت أركانها وذهبت برونقها وشتتت شمل سكانها وجعلتها خراباً بعد أن كانت زهر العواصم ووردة البلدان.. أما أهلها في الحاضر فمنهم أفراد معتبرون ذوو فضل وفضيلة من مشاهير العلماء الحائزين على الاعتبار العام، سواء من جهة المعارف والفنون أو من جهة الصفات والآداب. وأما الأكثرون فعندهم ذكاء طبيعي لا ينقصه لتمام جلائه وإظهار إشراقه إلا سبكه بآلة العلم والمطالعة، وكنا نود أن نرى عندهم مدارس أكثر أهمية من التي عندهم الآن وهذا نتمناه لهم من صميم فؤادنا".