لم تكتفِ نوال السعداوي (1931-2021)، التي رحلت عن عالمنا أمس الأحد، بالانشغال الفكري بقضايا المرأة ضمن ما يُعرف بالحركة النِّسوية، حيث إنها اعتمدت الأدب بتنويعاته المختلفة، من المذكّرات والسيرة الذاتية إلى القصّة والرواية، كروافد أخرى في معاركها التي خاضتها ضدّ مُثلّث السلطة السياسية - الدينية - الاجتماعية. وطبعاً، كان لهذه المعارك جانبها العمليّ والميداني، الذي نجد أثره في نصوصها أيضاً.
بالعودة إلى مسار كتاباتها، سنجد أن السعداوي بدأت من الأدب تحديداً، فكان أول منشوراتها مجموعة قصص قصيرة بعنوان "تعلّمت الحب" (1957)، وهو عمل مرّ عابراً، حيث صُنّف، على عجالة، ضمن كوكبة الكتابات النسائية التي لا تُؤخذ على محمل الجدّ. وحتى الإشارة إلى تحرير المرأة، كانت تُوضع في خانة التظلّم ولا يصل صداها بعيداً.
لكنّ السعداوي نجحت بسرعة في تخطّي مثل هذه الحواجز. إذ عرفت، حين نشرت كتابها "مذكّرات طبيبة"، كيف تصل إلى جمهور أوسع، ولم تكن حيلتها وقتَها غير تغذية الأدب بتجربتها الواقعية، وهي التي تعمل طبيبة؛ تلك المهنة التي يعترف بسُلطتها المجتمع، أو أنّه، بالأحرى، مجبَرٌ على هذا الاعتراف، على خلفية الحاجة إلى نساء يمارسن الطب.
هذا الموقع أتاح أيضاً للسعداوي ما هو أكثر من بناء "هويّة أدبيّة"، فقد باتت مطّلعة على إشكاليات المرأة عبر طيف واسع من الحوادث اليومية: تعنيف، إجهاض، أمّيّة، طردٌ من البيت... تراكُمُ تلك الحوادث كان يوازيه تراكمٌ في الإصدارات. هكذا، ستنتقل الكاتبة المصرية إلى ما هو أبعد من الكتابة ذات النزعة السيَرية، أو التوثيقية، بالاشتغال على التخييل الأدبي كحامل لقضايا المرأة، وتصوُّر ممكنات تحرّرها، وهو ما نجده منذ عناوين روايات مثل "سقوط الإمام" و"موت الرجل الوحيد على الأرض"، و"جنات وإبليس"، و"موت معالي الوزير سابقاً".
راوحت بين التخييل والفكر، وغذّت أعمالَها بتجاربها الخاصة
نُظر إلى جميع هذه الأعمال - ربما منذ عتبة عناوينها - باعتبارها استفزازية، وهو ما كلّف نوال السعداوي الدخول في سِجالات عدّة مع فئات متشدّدة، فوصل الأمر إلى تهديداتٍ بالقتل، فضلاً عن رفع قضايا ضدّها بتهَم مثل ازدراء الأديان ونشر الفتنة وخدش الأخلاق، وإلى مطالبات بإسقاط الجنسية عنها. كذلك رُفعت قضيّةٌ للتفريق بينها وبين زوجها.
لكنّ الهجوم الأخطر ضدّها لم يكن بسبب كتاباتها الأدبية، بل لتحرّكها في الفضاء الفكريّ، وهو الانتقال الأبرز في مسيرتها. كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي حين نشرت مؤلّفات أساسية في سياق كتابات تحرير المرأة: الحديث هنا عن أعمال مثل "المرأة والجنس" (1974)، و"الوجه العاري للمرأة العربية" (1977)، و"المرأة والصراع النفسي" (1977)...
لم تكن هذه الأعمال نقلةً نوعية في مسار نوال السعداوي وحدها، بل في مجمل ما يُكتب ضمن القضية النِّسوية العربية. ولم يكن وقتها هذا المصطلح (النِّسوية) متداولاً، بما يعنيه من ترافق البُعد النضالي والأفق التنظيري. ولعلّ كتابات صاحبة "توأم السلطة والجنس" تُمثّل الحجر الأساس في هذا السياق، كذلك فإنّها لحظةُ تلقّف المرأة قضيّةَ حقوقها، والخروج نهائياً من التعبير عنها بلِسان الرجل. فقبل سلسلة المؤلفات الفكرية التي وضعتها السعداوي، كان مثقّفون رجالٌ أبرزَ مَن ينهضون بهذا البُعد، مثل قاسم أمين في مصر، والطاهر الحدّاد في تونس.
صبّت معظم أطروحات الفكر النِّسوي في الثقافة العربية
من الوجيه هنا وضْعُ مؤلّفات السعداوي في سُلّم تاريخي للعمل من أجل تحرير المرأة عالمياً أيضاً. تمثّل الكاتبة المصرية أحد وجوه ما يسمّيه المؤرّخون "الموجة الثانية من الحركة النِّسوية"، وهي المرحلة التي دخلت فيها نضالاتُ المرأة مستوىً أبعد من المطالبات بالحقوق المدنية؛ مثل حق الاقتراع والعمل، والمطالبة بتوزيع عادل للأدوار الاجتماعية والامتيازات، من خلال تفكيك منظومة القِيَم التي تُنتج التمييز ضد المرأة. وهنا ظهرت كتابات سيمون دو بوفوار وكايت ميليت، وأُطلِقَت مفاهيم مثل البطريركية وسياسات القهر والذهنية الذكورية، وبدأ الحفر أنثروبولوجياً في فهم أسباب عدم التكافؤ التاريخي بين الجنسين.
صبّت نوال السعداوي معظم هذه الأطروحات في اللسان العربي، وهو ما جلب إليها المزيد من التهجّم، ليس فقط من تيارات التشدّد الديني، بل من السلطة السياسية أيضاً. إذ لا يَخفى أنّ تحرير المرأة قاطرةٌ لتثوير المجتمع برمّته. في 1981، اعتُقلت السعداوي في عهد أنور السادات، ضمن تضييقاته على الحرّيّات السياسية، وكان بذلك يحاول أن يضرب عدّة عصافير بحجر واحد: تخويف المعارضة ذات المقولات الثقافية، وكسب ودّ الحركات الإسلامية. والمفارقة أنّ سياسة السادات انتهت بمقتله من قِبَل متشدّدين إسلاميين، وقد أُفرِج عن نوال السعداوي تبعاً لذلك في السنة نفسها، حيث لم تكن قد أكملت عاماً في السجن.
مرّة أخرى، اعتمدت الكاتبة المصرية على تجربتها الذاتية لتغذية عالمها الإبداعي، فوضعت كتاب "مذكّرات في سجن النساء" الذي صدر عام 1983، ولقي رواجاً جماهيرياً لافتاً، ولعلّه اليوم كتابها الأكثر مقروئية. يعود ذلك إلى كونه حلقةَ وصل بين الكتابة الفكرية التي يجد الجمهور صعوبة في التعامل معها، والكتابة الأدبية التي تميل نحو الخيال، كذلك يمثّل العمل تجربةً حيّة تُعبّر عن مسيرة نضالية ثرية.
في المحصلة، أصدرت نوال السعداوي أكثر من خمسين عملاً بين رواية ومجموعة قصصية ونصّ مسرحيّ وكتاب سيرة الذاتية وعمل فكريّ. لكن الوصول إلى هذه الأعمال يمرّ في الغالب عبر صورتها في سِجالاتها، وفيها يختلط تمجيدُ الأنصار بتشويهات المناوئين.