"لعلّ العصر العثماني في مصر من أقلّ عصور التاريخ حظّاً من اهتمام المؤرّخين العرب عامة والمصريين خاصة، ولا يعود ذلك إلى ندرة مصادره الأصلية، فما هو موجود يفوق الحصر، وإنما يرجع إلى ظروف سياسية"، بهذه الكلمات يُصدّر المترجِم المصري رؤوف عباس النسخة العربية من كتاب مواطنته الباحثة نلّلي حنّا (1942) "تجّار القاهرة في العصر العثماني: سيرة أبو طاقية شاهبندر التجّار"، الذي أتاحته، مؤخّراً، "مؤسسة هنداوي" بنسخة إلكترونية، بعد قرابة ربع قرن على صدور طبعتيه الإنكليزية والعربية.
يتناول الكتاب حياة تاجر كبير، هو إسماعيل أبو طاقية، الذي زاوَل نشاطه في القاهرة بين بداية الثمانينيات من القرن السادس عشر حتى وفاته عام 1624. ويَتطرّق إلى فئة التجّار الكبار، ومَظاهر سُلوكهم، ونشاطهم التجاري، ودورهم في الاقتصاد الحضَري بتلك الحقبة. ويتضمّن مقدّمة، وثمانية فصول، هي: "رؤية عامة للحقبة التاريخية"، و"عائلات التجار والبيوت التجارية العائلية"، و"هياكل التجارة"، و"التحوّل في أنماط التجارة"، و"التركيب الاجتماعي"، و"تشكيل المعالم الحضرية للقاهرة"، و"الحياة العائلية في بيت أبو طاقية"، و"حصاد الدراسة".
وحيث ينطلق الكتاب من زاوية ترجمة سيرة حياة رجل ينتمي لطبقة التجّار، فهو يدفع، بناء على هذا الإطار، إلى النظر في حال طبقة بأسرها، هم التجّار البارِزون من أبناء جيله. و"تُسجل المصادر نشاط أولئك من أمثال عائلات الرويعي والشجاعي والعاصي وابن يغمور، الذين اشتغلوا بتجارة البحر الأحمر، فتُسجِّل صفقاتهم، وشركاتهم، وقُروضهم، واستثماراتهم، وغير ذلك من ألوان النشاط التي قدمت لنا مادة تصلح للمقارنة، بمُختلف مظاهر حياة أبو طاقية وتجارته".
اعتمدت على سجلّات المحاكم الشرعية كمصدر لكتابة السيرة
واللافت في الكتاب أنه الدراسة الأُولى مِن نوعها التي تَستخدم سجلّات المحاكم الشرعية مصدراً لترجمة حياة إحدى الشخصيات. حيث تعدّ هذه السجلات مصدراً ثميناً لدراسة التاريخ الاجتماعي والاقتصادي، لاحتوائها على مادّة تتَّصل بالحياة في المدينة، بمُختلف مَظاهرها الاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والتجارية.
وتُرجّح حنّا أن السبب الذي حدا بأحمد أبو طاقية إلى الانتقال من حمص، المدينة الصغيرة الواقعة وسط سورية، إلى القاهرة ثاني أكبر المدن في الدولة العثمانية بعد إسطنبول، وخاصة أن حلب كمركز تجاري رئيسي كانت أقرب بالنسبة له، هو "الأمل في تحقيق أرباحٍ أوفر من تلك التي يُمكن تحقيقها في حمص، والرغبة في ارتقاء مكانة رفيعة بين التجار".
ومن المظاهر الاجتماعية التي يرصدها الكتاب في حياة أبي طاقية، مفهوم "العائلة الممتدّة" المتكوّنة من فائض الثروة التجارية، حيث توثّق لثلاثة وعشرين فرداً من أفراد هذه العائلة، كما تتطرّق إلى تحالفات الزوجات والجواري، والتراتب الاجتماعي في بيت العائلة، وطريقة تعامله مع أبنائه، وتعامل الأبناء في ما بينهم، وتجاوز نطاق الهياكل التقليدية للعائلة.
وتنبّه صاحبة "مصر العثمانية والتحوّلات العالمية 1500 - 1800" إلى أنّ التجار لم يَلعبوا دوراً نشطاً في الصراع على السلطة الذي دارت رحاه بين السُّلطات العثمانية والجماعات العسكرية المحلية، إلّا أنهم لم يكونوا مجرَّد مُراقبين سلبيِّين للأحداث التي تبلورت صورتها في تلك الأيام. ولا عجب أن نجد إسماعيل أبو طاقية قد أحاط نفسه بمظاهر الحياة الأرستقراطية القاهرية، بعد أن أصبح شاهبندر التجار.
يُشار إلى أنّ نللي حنا هي مؤرّخة مصرية معاصرة، نشأت في القاهرة وتعلَّمت في إحدى مدارسها الإنكليزية قبل التحاقها بـ"الجامعة الأميركية" في القاهرة. درست التاريخ العثماني في فرنسا، حيث أنجزت الدكتوراه من جامعة "إكس أون بروفانس"، بعنوان "بيوت القاهرة في القرنين السابع عشر والثامن عشر: دراسة اجتماعية معمارية". من مؤلّفاتها: "مصر أم الدنيا: قصة القاهرة في 1300 عام" (2012)، و"التاريخ الحضاري لبولاق في العصرين المملوكي والعثماني".