نصف قرن على "قسم الدراسات الشرقية" في كوسوفو.. هل يمكن للمُسلم أن يكون مستشرقاً؟

29 مايو 2023
من ندوات الاحتفالية
+ الخط -

لمناسبة مرور نصف قرن على تأسيس "قسم الدراسات الشرقية" (1973 - 2023) في "جامعة بريشتينا" في كوسوفو، أُقيمت، الثلاثاء الماضي، احتفاليةٌ شهدت تكريم الأساتذة المؤسّسين للقسم؛ وهُم: فتحي مهديو، وإسماعيل أحمدي، ومهدي بوليسي، وإلياس رجا، ومحمّد موفاكو، وسْط حضور كبير لثلاثة أجيال: الجيل المؤسّس، والجيل الثاني الذي يتولّى القسمَ الآن بمشاركة الجيل الثالث؛ حيث حضرت الاحتفاليةَ قرابةُ أربعمئة من خرّيجي القسم.

تضمّنت الاحتفالية - التي افتتحت بكلمات لرئيس الجامعة كريم كريمي والسفير التركي في بريشتينا صبري تونش انغلي والسفير السعودي في تيرانا وبريشتينا فيصل حفظي - جلسةً علمية ضمّنت خمس أوراق؛ هي: "إسهام الدراسات الشرقية في المجال العلمي 1973 - 2023" لـ فتحي مهديو، و"من الاستشراق إلى الاستشراقات وما بعد الاستشراق: أين قسم الدراسات الشرقية في بريشتينا في هذه التطوّرات؟" لمحمّد موفاكو، و"الاستشراق البلقاني: استشراق أم استعراب؟" لعلي بن إبراهيم النملة؛ أستاذ الدراسات العليا في "جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية" في الرياض، و"إسهام قسم الدراسات الشرقية في الدراسات الألبانية" لصادق محمدي، و"أهمّية اللغة العثمانية في الإستوغرافيا الألبانية" لأغرون إسلامي.

كان رئيس "جامعة بريشتينا"، كريم كريمي، قد أشاد في كلمة افتتاحية بالنتاج العلمي للقسم. ولكنّ ورقة فتحي مهديو حملت مفاجأةً في حجم هذا النتاج وتعدُّد اللغات التي نُشر بها؛ إذ كشف عن أنّ الجيل المؤسّس والخرّيجين الذين توزّعوا على عدّة بلدان (كوسوفو ومقدونيا الشمالية والجبل الأسود والبوسنة وألبانيا وتركيا وغيرها) أصدروا قرابة 350 كتاباً و1500 دراسة ومقالة متخصّصة، لتُشكّل بذلك إسهاماً فارقاً؛ سواء في اللغة الألبانية أو في اللغات الأُخرى حول تاريخ المنطقة وثقافتها خلال الحكم العثماني الذي استمر قرابة 500 سنة، أو حول صلات الألبان بشعوب الدولة العثمانية، ومن ذلك العرب بطبيعة الحال.

عرفت الدراسات الشرقية تطوّراً كبيراً بعد تأسيس القسم

وفي هذا السياق، تناولَت ورقةُ صادق محمدي أهمّيةَ نتاج قسم الدراسات الشرقية في الكشف عن جوانب جديدة في التاريخ والثقافة الألبانيَّين، ومن ذلك الأدب الألباني المكتوب بالأبجدية العربية وإسهام المثقّفين الألبان في التأليف باللغتين العثمانية والفارسية، بينما جاءت ورقةُ أغرون إسلامي لتُؤكّد مدى أهمّية اللغة العثمانية في الكشف عن مصادر جديدة تُفيد في فهم أفضل للتاريخ الألباني.

أمّا ورقتا محمد موفاكو وعلي بن إبراهيم النملة، فقد طرحتا أسئلةً جديدة وأثارتا مناقشةً خلصت إلى وجود حاجة لندوة أُخرى تتناول المفاهيم الأساسية حول هذا المجال المعرفي بين الجانبين الألباني والعربي، وبالتحديد حول شمول مفهوم الاستشراق والمستشرقين للباحثين المسلمين في البلقان أيضاً.

وفي ورقته "من الاستشراق إلى ما بعد الاستشراق"، تناول محمّد موفاكو التطوّرات المفاهيمية والمؤسّسية التي طرأت في هذا المجال العلمي بعد تأسيس قسم الدراسات الشرقية، مُنطلِقاً من كتاب المستشرق الأميركي بيتر غران "الجذور الإسلامية للرأسمالية" (1976) الذي أسّس لمقاربة نقدية من الداخل للاستشراق التقليدي Orientalism، استمرّت حتى كتابه الأخير "استمرارية الاستشراق" (2020).

فتحي مهديو
فتحي مهديو؛ أحد مُؤسّسي "قسم الدراسات الشرقية" في "جامعة بريشتينا" (من الاحتفالية)

كما انطلق من كتاب باتريشيا كرون ومايكل كوك "الهاجرية" (1977)، الذي همّش الروايات الإسلامية ليصل إلى صورة غير مسبوقة عن الإسلام بالاعتماد على المصادر البيزنطية والأرمنية والآرامية والسريانية، وهو ما استمرّ في كتاب كرون اللاحق "تجارة مكّة وظهور الإسلام" (1987).

وتطرّق موفاكو أيضاً إلى صدور كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد عام 1978، والذي ترك أثراً خاصّاً في البلقان. وفي هذا السياق أشار إلى حارث سيلاجيتش، الذي كان يعمل في القسم أستاذاً للغة العربية، ونشر واحداً من أوّل العروض العربية للكتاب الذي بقي يُنتج هزّات ارتدادية. ومن ذلك دراسة الباحثة الصربية ميليتسا باكيتش عن "تعشيش الاستشراق" (1992)، وكتاب البلغارية ماريا تدروفا "تخيّل البلقان" (1997)، وكتاب أسعد دوراكوفيتش "علم الشرق" (2007).

ومن ناحية أُخرى، كان للتغيّرات في تكوين الأقسام التي تتناول الشرق بمسمّيات مختلفة مهمة نتيجةً لتزايُد عدد العاملين فيها من أصول عربية ومسلمة حتى أصبحت تقترب من خمسين في المئة، وهو ما انعكس في النتاج المعرفي الجديد؛ ككتاب الباحث الايراني الأميركي حميد دباشي "ما بعد الاستشراق" (2009).

أسهَم القسم في كشف جوانب جديدة في التاريخ والثقافة الألبانيَّين

وفي ما يتعلّق بالبلقان، كان مُؤسِّس أوّل قسم في "جامعة بلغراد" عام 1926، فهيم بايراكتاروفيتش - الذي تخرّج من "جامعة فيينا" وكان متأثّراً بالاستشراق النمساوي الألماني - قد اختار لتسمية القسم صيغة بلقانية انتشرت لاحقاً "أوينتاليستيكا" Orientalistika؛ وهي صيغة مأخوذة من الصيغة الألمانية "دراسات شرقية" Orientalische Studien، لكي يبتعد بذلك عن الاستشراق المؤدلج Orientalism.

ولكن، كما كان الاستشراق الألماني مؤدلجاً في بعض أعلامه؛ مثل ماكس فون أوبنهايم (1877 - 1946)، الذي نظّر للخلافة والجهاد لخدمة ألمانيا خلال الحرب العالمية الأُولى، كذلك فإنّ "الأورينتاليستيكا" البلقانية حملت بدورها دوراً أيديولوجياً في خدمة الأنظمة القومية الصاعدة، وهو ما تجلّى في موقف بعض المستشرقين الصرب في شيطنة المسلمين في البوسنة لتبرير العدوان عليها بين 1992 و1995 والمجازر الجماعية التي ارتُكبت ضدّ المسلمين هناك. ولذلك نجد أنّ قسم "الأورينتاليستيكا" في سراييفو غيّر اسمه في 2003 ليُصبح "قسم الفيلولوجيا الشرقية"، ليُركّز فقط على دراسة اللغات والآداب العربية والتركية والفارسية.

خمسينية قسم الدراسات الشرقية في كوسوفو
من الاحتفالية

أمّا علي النملة، الذي نشر أكثر من عشرين كتاباً عن الاستشراق تناولت مختلف المفاهيم والتطوّرات فيه، فقد كانت ورقتُه، التي حملت عنوان "الاستشراق البلقاني: استشراق أم استعراب؟"، مستقاةً من كتابه الأخير "استشراق الشرق الأدنى الأوربي والتجسير الثقافي: رؤية في المفهوم". وتناول في الورقة دور الاستشراق المؤدلج في تخييل الشرق والغرب بحدود مصطنعة تتحرّك من حين إلى آخر، ولكنّه ركّز أخيراً على البلقان باعتباره منطقة تجسير بين الشرق والغرب؛ إذ إنّه، بالنسبة إلى الغرب "الشرق الأدنى الأوروبي"، وبالنسبة إلى الشرق "الغرب الأدنى الأوروبي".

وانطلاقاً من تتبُّعه المفصَّل لأقسام الاستشراق أو الدراسات الشرقية في الجامعات البلقانية ونتاجها المعرفي، تحدّث النملة عن ضرورة تمييز "المستشرقين" في الغرب عن "المستعربين" في البلقان، على اعتبار أنّ المُسلم لا يمكن أن يكون مستشرقاً، لأنّ موضوع بحثه (الثقافة الشرقية) لا يُعبّر عن دراسة الآخر المختلِف، بل هو دراسة للذات في امتدادها الجغرافي الواسع الذي يشمل "الشرق الأدنى الأوروبي".

كانت ورقة النملة، القادم من الجامعة العربية الوحيدة التي تحتضن قسماً للاستشراق، مُثيرةً للنقاش، بما حملت من مقاربة جديدة. لذلك تمنّى الجميع مواصلة هذا التفُاعل مستقبَلاً في ندوة أُخرى.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون