مِن أين تأتي القصيدة؟ لا أحد يجيب عن هذا السؤال. فالقصيدة خليطٌ كيميائي غامض، متشكّل من الوعي واللاوعي، الفردي والجماعي؛ ومن تلك اللحظة الشعرية التي لا يدري بها حتى الشاعر نفسه. القصيدة أرضُ مفارقات، فهي تشكُّلٌ لغويّ يصدر عن ذاك العالم الداخلي اللاّلغويّ، عالم التجربة والحياة التي تمور في الداخل. وهي إرادية ولاإرادية، ومثل الحلم واعية وغير واعية، وهي كذبٌ، بيد أنها تعبّر بصدق عن حقيقة العالم. يعني ذلك أنها كذبٌ صادق. وهي مادّية متشكّلة من أحرف وكلمات، ولكنها تنتمي إلى عالم الروح؛ تأخذك بعيداً، بعيداً...
الشاعر الفرنسي شارل بودلير يعبّر عن وجهٍ آخر من مفارقات القصيدة، حيث يقول: "إن الشعر هو الشيء الأكثر واقعيةً، والذي لا يكون حقيقياً إلّا في عالَم آخر".
ومن مفارقات القصيدة أنها تنبتُ في مكان وحقبة محدّدين، بيد أنها تتجاوز عصرها، تخترق الأزمنة والأمكنة. فأنت تقرأ قصيدة حُبّ مصرية كُتبت قبل آلاف السنين، فإذا بها معاصِرةٌ لك، وتقرأ قصيدة من أقاصي العالَم، للشاعر الصيني الفذّ، لي بو، مثلاً، فإذا هي محلّية...
ترى إيتيل عدنان أنّ كلّ فعل خلق هو فعلٌ شعريّ بالضرورة
ولكن، من أين تأتي هذه القصيدة؟ الشاعر الفرنسي روبرت ديزنوس (Robert Desnos) يرى أن هناك قصيدة عظيمة تتشكّل في لاوعي الشاعر من الولادة حتى الموت، تتشكّل في ذاك العالم الليليّ المعتِم، الذي يعيشه ولا يعيه، وهو لا يستطيع الكشف سوى عن شذرات عشوائية من هذه القصيدة العظيمة.
أمّا الشاعرة والفنّانة التشكيلية اللبنانية إيتيل عدنان، فترى أنّ كلّ فعل خلق هو فعلٌ شعريّ، والله خلق قصيدةً كبيرة؛ والشّاعر يرى نتفاً وأجزاءً من هذه الحقيقة/ القصيدة الكبرى.
لويس أراغون، الشاعر الفرنسي الآخَر، يرى أن الشعر مرآةٌ مضبَّبة لمجتمعنا، بحيث أن كلّ شاعر ينفخ أنفاسه على سطح هذه المرآة ويطبعها بشكلٍ مختلف...
وأنت لا تدري شيئاً... وتعبر ذلك الحاجز. وترى نفسك آخر النهار تحت ذلك القمر المائل في السماء الزرقاء، فوق قبّة "كاتدرائية سان سولبيس" في باريس؛ القمر الذي يمتزج ضوؤه برذاذ النافورة التي تتوسّط الساحة التي تحمل الاسم نفسه، وتفكّر في إيتيل عدنان وهي في التسعين من العمر، جالسة هناك، لا مرئية. وتمضي إلى مساحات أُخرى. لا تفكّر في القصيدة؛ ثمة حاجزٌ وراءه ليلٌ آخر...