لا تشذّ مهرجانات الصيف في الأردن عن نظيرتها في العديد من البلدان العربية، إذ أُنشئت هذه التظاهرات أساساً من أجل تقديم مغنّين يحظون بمتابعة جماهيرية، بغضّ النظر عن مستوى ما يقدّمونه، ثم تُستوفى برمجتها بفعاليات من المسرح والموسيقى والشعر وأخرى موجّهة للطفل، تعدّ غالباً على عجلة ودونما تخطيط.
ويكمن السبب وراء تأجيل الإعلان عن برامجها في خلافات تقع عند التفاوض مع أولئك المغنّين حول أجورهم وظروف استضافتهم مع فرقهم الموسيقية، ما يضطر المنظّمين إلى استبدال اسم بآخر حتى اللحظة الأخيرة، ناهيك عن الجدل الذي يُثار دائماً حول اختيار أسماء المغنّين من البلد المضيف، بالنظر إلى حدّة التنافس في ما بينهم.
خللٌ رئيس يتطلّب مراجعة جذرية لفكرة مهرجان الصيف التي تركّز على بعدٍ ترفيهيي لا يمكن إغفال أهمّية استمراريته، لكنه يعكس معضلة في الإصرار على جمع الثقافة، والفنون ــ كما تفهمها المؤسّسة الرسمية أو المؤسّسات الأهلية التي تعقد مهرجانات كهذه ــ في سلّة واحدة!
في الأردن، حيث تحتضن مدينتا جرش والفحيص مهرجانَيْن يتمتّعان بحضور واسع نسبياً؛ الأول تنظّمه وزارة الثقافة بينما يشرف "نادي شباب الفحيص" على المهرجان الثاني، لا تزال تهيمن رؤية تقليدية تجاه الفنّ، تعكسها طبيعة الحفلات التي تُخَصّص معظمها لفرق شعبية محلّية وعربية وأجنبية.
تكشف برامج الفعاليات عن رؤية تقليدية تجاه الفن
التفكير داخل الصندوق يغيّب حضور أشكالٍ موسيقية معاصرة في كلا المهرجانَيْن اللذين يتوجّهان نحو التطريب أو أغاني البوب، بينما يندر استضافة فرق من الأردن، أو خارجها، تقدّم الجاز والبلوز والروك والراب والموسيقى الإلكترونية، أو تلك التي تمزج بينها وبين إيقاعات وألحان من التراث أو الموسيقى الكلاسكية العربية.
تعتمد وزارة الثقافة الأردنية على اتفاقيات التبادل الثقافي مع هيئات رسمية في أكثر من ستّين بلداً، لاستقدام مشاركات تُعرض على المسرح الشمالي في مدينة جرش الأثرية، والتي تُخّفف عنها أعباءً وتكاليفَ مالية شتّى، لكنّ المتابع لتلك العروض يجد أن لا ناظم بينها غير أنها تمثّل تنويعات على الفولكور فقط، وهي تخضع لما يمكن أن توفّره البلدان التي يتمّ توقيع التفاهمات معها.
مقابل ذلك، لا يخطر ببال المنظّمين إقامة معارض فنّية قد تحقّق إضافة للمهرجان ضمن رؤية حداثوية متنوّعة، إذ أقيمت في "جرش" و"الفحيص" خلال دورات سابقة معارض جمعت فنّانين تشكيليين أردنيين تتفاوت مستوياتهم بشكل كبير، وتحمل ثيمات ترتبط بالتراث والطبيعة في الأردن، بل إنه لم يُعقد حتى اليوم معرض يوثّق تاريخ أيّ من المهرجانَيْن ويشكّل أرشفة بصرية لمهرجان تأسّس عام 1981، وآخر أُنشئ سنة 1990.
أمّا برنامج الشعر في "جرش"، فأجريت عليه بعض التعديلات في الدورة السادسة والثلاثين من المهرجان التي تنطلق في الثامن والعشرين من تمّوز/ يوليو الجاري وتتواصل حتى السادس من الشهر المقبل، وأبرزها تقليل عدد "الشعراء" المشاركين من واحد وتسعين أردنياً حضروا في الدورة الماضية إلى ثلاثين سيشاركون في الموسم الحالي.
جائزة للشعر يتبدّل اسمُها كلّما رحَل شاعر أردني
تُدافع "رابطة الكتّاب الأردنيين"، التي تساهم في وضع البرنامج عن سياستها الجديدة، بأنه تمّ "استرضاء" معظم كتّاب الشعر الأردنيين في سنوات سابقة، وآن الآوان للاهتمام بـ"جودة" الشعر، وهي خطوة إيجابية إذا ما أحسنت "اللجنة الثقافية" المسؤولة اختيار المشاركين، خاصّة مع رفع قيمة المكافأة المرصودة لهم، والتي كانت محلّ جدل أيضاً في المواسم الماضية.
ويبقى الرهان أيضاً على انتقاء الشعراء العرب المشاركين، حيث يحضر حوالي عشرة منهم قياساً بخمسة وثلاثين قدِموا عام 2021، إذ تتكرّر أسماء الكثير منذ تأسيس المهرجان بسبب العلاقات التي تربطهم بـ"الفاعلين الثقافيين" في الأردن، ولا يختلف "مهرجان الفحيص" في اختياراته ضمن هذا السياق.
وارتأى المنظّمون حصْرَ الأمسيات الشعرية في العاصمة وعدم توزيعها على المحافظات كما كان يحدث في أعوام سابقة، لأسباب تهدف إلى عدم تشتيت الجمهور والشعراء المستضافين، وهي مسألة إجرائية جيّدة من ناحية تنظيمية، لكنّها قد تحرم متذوّقي الشعر في الأطراف من متابعة المهرجان.
يُنتظَر في يوم الافتتاح إعلان "جائزة إبراهيم الخطيب" التي تبلغ ألفَيْ دينار (ثلاثة آلاف دولار تقريباً)، وترعاها الرابطة ويموّلها المهرجان، علماً بأن هذه الجائزة يتبدّل اسمُها كلّما رحَل شاعر أردني، إذ كانت تحمل اسم الشاعرَيْن الراحلين خالد محادين وجريس سماوي، غير أن التساؤلات تبدو مشروعة عن جدوى مثل هذه الجوائز في تطوير الحراك الشعري الأردني وموقعه في خريطة القصيدة العربية.
ملاحظة أخيرة تتّصل بمكانة الثقافة نفسها، حين يعرض "التلفزيون الأردني" جميع الحفلات الغنائية التي يحتضنها المسرح الجنوبي في مدينة جرش ويُعيد عرضها مرات عدّة على مدار العام، بينما لا تحظى أمسيات الشعر أو غيرها من الفعاليات "الجادّة" إلّا بدقائق معدودة في تقرير صامت عادةً ما تُذيّل به نشرات الأخبار على القناة الرسمية!