بين القهوة والثقافة علاقةٌ تفاعلية ظلّت مثمرة على مرّ القرون، سواء في البلاد التي جاورت بداية هذه العلاقة (المشرق)، أو في العالم الجديد الذي أخذ يتشكّل مع الامتداد العثماني في أوروبا وصولاً إلى العالم الجديد الذي أصبح يُسمّى أميركا.
صحيح أنّ القهوة كانت اكتشافاً فردياً، وانتشرت ابتداءً من اليمن في القرن الخامس عشر لتُصبح مشروباً للضيوف والأصحاب في البيوت، ولكنّها خرجت بعد قرن في مكّة إلى الشوارع تبحث عن فضاء أو مكان خاص بها أصبح يُسمّى لاحقاً "بيت القهوة" في القاهرة ودمشق (مع عودة الحجّاج وحملهم للمستجدّات سواء في الفكر أو في الحياة الاجتماعية).
ولأنّ تطوُّراً حدث مع الفتح العثماني لبلاد الشام، فقد انتشرت "بيوت القهوة" شمالاً نحو حلب ومنها إلى إسطنبول، وبعدها إلى أوروبا وصولاً إلى لندن التي أصبحت المقاهي فيها بالمئات خلال القرن السابع عشر، تغصّ بالرجال الذين كانوا يبحثون عن فضاء عام يستمعون فيه ويناقشون الأفكار الليبرالية الجديدة ضد الملكية المطلقة لصالح برلمان قوي، ليُثمر ذلك عن "ثورة كرومويل" وإعلان الجمهورية عام 1648، وعن توجُّه نساء لندن لاحقاً بعريضة معروفة إلى عمدة لندن عام 1674 تطالبه بإقفال "بيوت القهوة" لأنها حرمتهنّ من أزواجهن.
أمر سليمان القانوني بإقفال "بيوت القهوة" في دمشق والقدس
في هذه المسيرة الطويلة للقهوة و"بيوت القهوة" من اليمن إلى نيو إنغلاند، من المخا وإلى بوسطن، أخذت بيوت القهوة تنشر ثقافة جديدة في المشرق وتتأثّر من حيث الشكل والمضمون بالثقافة الجديدة في المجتمعات الأوروبية والأميركية لاحقاً.
في هذا السياق، الذي يخلق خوفاً من الجديد، لم يخلُ الأمر من محاولات وحملات لمنع وإغلاق "بيوت القهوة" في دمشق والقاهرة وحتى إسطنبول وسراييفو، بالاعتماد على فتاوى من رجال دين ورسائل وأشعار كانت تُؤلَّف خصّيصاً من "العلماء" لتخويف الجمهور من مخاطر القهوة على الإنسان ومن مخاطر "الفساد" في "بيوت القهوة" التي أصبحت تُسمّى "حانات المسلمين" في الغرب.
البداية في القدس
ضمن هذه المسيرة، يمكن القول إنّ "بيوت القهوة" أو "حوانيت القهوة" في دمشق قد بدأت في الظهور منذ 1536 على الأقل، كما يشهد على ذلك المؤرّخ الدمشقي المخضرم ابن طولون الدمشقي (رحل عام 1545)، على الرغم من احتدام المعركة بين أنصار القهوة ومعارضيها التي أوصلها علماء دمشق المحافظين إلى السلطان سليمان القانوني فأمر بإبطالها في 1546. ولكن "بيوت القهوة" سرعان ما عادت إلى اجتذاب المزيد من الزبائن التي وجدوا فيها ملذّات أُخرى.
ويظهر هذا في القدس المجاورة، التي يبدو أنّ أوّل "بيت للقهوة" افتتح في تلك السنوات، ولكنها سرعان ما زاد عددها والإقبال عليها بسبب تحوُّلها إلى أمكنة للتمتّع بالغناء والموسيقى، وهو ما أثار مخاوف بعض "علماء" القدس من أن يؤثّر الإقبال عليها إلى الانصراف عن "بيوت الله"، ولذلك توجّه قاضي القدس في نهاية 1564 بكتاب إلى السلطان سليمان القانوني يشكو فيه من مدى الإقبال على "بيوت القهوة" ومخاطره، ويطالبه بإصدار أمر سلطاني بإقفالها، وهو ما فعله السلطان بالفعل في الثالث من كانون الثاني/ يناير 1565.
ولكن القهوة انتصرت لاحقاً على المعارضة في عاصمة السلطنة (إسطنبول)، ومنها عاودت انتشارها في البلقان، وعبره نحو أوروبا الوسطى (الإمبراطورية النمساوية التي كانت في حالة حرب مستمرّة مع "العدو العثماني" ولكنها تقبّلت منه القهوة"). ومع أنّ افتتاح "بيوت القهوة" في إسطنبول شهد طفرة جديدة تعبّر عن المجتمع العثماني الجديد، ممّا جعلها مدينة تعجّ بمئات المقاهي المتواضعة والوسطى والفخمة، التي كانت تُعبّر عن أحوال زبائنها، إلّا أنّ افتتاح أُولى المقاهي في فيينا أحدث طفرة جديدة من نمط جديد من "بيوت القهوة" اشتهر لاحقاً في كل العالم: "مقاهي فيينا". ولأجل هذا النمط الجديد من المقاهي، الذي يتميّز بجو الاسترخاء الذي يشجع على الحديث وأصبح يشدّ إليه مثقّفين بارزين، فقد قامت النمسا بالترويج لـ"المقهى الفييني" في بداية القرن الحالي، والذي ستصنّفته "اليونسكو" ضمن التراث غير المادي للإنسانية في عام 2011.
من "مقهى الهوسبيس" إلى "مقهى فيينا" في الهوسبيس
عرفت القدس بعد حرب القرم في النصف الثاني للقرن التاسع تغيُّرات عكست الوجود الأوروبي (الفرنسي والنمساوي والبريطاني إلخ) المتزايد. وفي هذا السياق، اشترت فيينا قطعة من الأرض في القدس بنت عليها "النزل النمساوي" للزوّار والحجّاج الذين يتردّدون على القدس، وهو ما اشتُهر لاحقاً باسم "الهوسبيس".
ومع مطلع القرن العشرين وانتشار الصحافة بعد 1908، عرفت القدس افتتاح مقاه جديدة تعبّر عن التطوُّر الثقافي والاجتماعي الجديد، ومن هذه كانت "قهوة الصعاليك" عند باب الخليل، والتي أسّسها الكاتب المعروف خليل السكاكيني (1878 - 1953) وتحوّلت إلى منتدى لضيوفه من فلسطين وخارجها، تُناقَش فيها الموضوعات الفكرية والسياسية، بل غدت عنواناً مثل "مطعم فيصل" في بيروت في جوار الجامعة الأميركية.
افتتح عارف الباسطي "مقهى الهوسبيس" في القدس عام 1927
وضمن ازدياد الارتياد على المقاهي، قام عارف الباسطي عام 1927 بافتتاح مقهى جديد عُرف باسم "مقهى الهوسبيس" لكونه يقع في جواره. ومع شهرة هذا المقهى، إلّا أنّ الأوضاع في القدس بعد 1967 حملت تغيُّرات جديدة تحوّل فيها هذا المقهى إلى "مطعم الباسطي" الذي كان أوّل مطعم يسوّق البيتزا الإيطالية في القدس الشرقية.
ولكن على بعد خطوات منه، بدأت بعد سنوات معركة جديدة بين النمسا والاحتلال الإسرائيلي حول "الهوسبيس"؛ فقد حوّلت السلطات الأردنية الجديدة - إبان حكمها للضفة الغربية - هذا المبنى التاريخي إلى مستشفى باسم "الهوسبيس"، وبقي المستشفى الحكوميَّ الوحيد حتى 1967، ولكن السلطات الإسرائيلية أقفلته في 1982 بحجّة عدم مراعاته للشروط الصحية لكي تضع اليد عليه لأغراض أُخرى. فتدخّلت النمسا بقوّة وتمكّنت من استرداد المبنى عام 1985 وحوّلته إلى فندق سياحي يتمّيز بإطلالته على القدس القديمة والأماكن المقدسة.
وفي هذا المبنى/ الفندق افتتحت "مقهى فيينا" الذي نقل تقاليد فيينا القرن التاسع عشر والقرن العشرين إلى قلب القدس، ممّا يجعل الزبون يشعر فعلاً أنه في قلب فيينا وفي قلب القدس في آن، وفي أنّ ما يدفعه من دولارات كثيرة في الفاتورة ليست لأجل القهوة التي شربها، بل لأجل الوقت الجميل الذي قضاه والمكان الفريد الذي استرخي فيه!
* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري