منّة علي.. فلسفة الانتقال إلى بيت الأبدية

12 يوليو 2021
(تمثال "ماعت" من عضر الاسرة الثامنة عشرة، Getty)
+ الخط -

في محاضرتها "ملامح الديانة في مصر القديمة" التي قدّمتها افتراضياً أمس الأربعاء بتنيظم من منصّة "المكان والناس"، أشارت الباحثة المصرية منّة علي إلى أنه تم التعرّف إلى ديانة المصريين القُدامى من خلال الأدب التعليمي الذي تعود أولى نماذجه إلى عصر الأسرة الرابعة، حيث حكمت من عام 2613 إلى 2496 قبل الميلاد.

انطلقت المحاضِرة من تعاليم الأمير حور دجد أف، ابن الملك خوفو، الذي يقول في أحد نصوصها: "يا بُنيّ، طهّر قلبك... وراقب نفسك، ولا تنتظر أن يراقبك الآخرون"، وهذا قولٌ يعبّر عن نظرة الحضارة المصرية القديمة إلى الحياة بوصفها زائلةً، وعملوا من أجل هذه اللحظة، حيث يقول حور دجد أف أيضاً: "لا تنسَ أنك بعد انتهاء حياتك ستنتقل إلى بيت الأبدية، لذلك فعليك أن تؤسّس نفسك مقبرةً لتكون مثواك في الغرب. عليك أن تتقبّل الموت بنفس راضية، فالموت يروّض النفس على التواضع، أمّا الحياة فقد تغريبنا وتملأنا بالتفاخر".

حظي الأدب التعليمي أو التهذيبي بمكانة مميّزة في الثقافة المصرية منذ آلاف السنين، وتضمّن قواعد الأخلاق والسلوك التي تحدّد للناس طريق السعادة في الحياة الدنيا والآخرة، كما بيّنت منّة علي التي تناولت تعاليم أخرى تنتمي إلى زمن الأسرة الرابعة، كتبها كاجمني، وزير الملك خوفو، يدوّن فيها: "على المرء أن يتحلّى بفضيلة الحياء والاستقامة والصمت. مَن كان قليل الكلام قنوع النفس تُفتَح له الأبواب، تُفسَح له المجالس، ويصبح موضع ترحيب من الجميع. لا تكن ثرثاراً وكن معتدلاً والزم طريق ماعت (تعاليم الحق والعدل والنظام في الكون التي نظّمت تعاملات الناس وعلاقتهم مع الإله). إنّ مَن حاد عم طريق الاستقامة فلن يفلح أبداً".

تأخذ هذه النصوص صيغة الرسائل التي يوجّهها الآباء عادةً إلى أبنائهم، بحسب المحاضِرة، وتحضّ على التمسّك بالتقوى، وخشية الله، وبرّ الوالدين، والتسامح، والأمانة، والإخلاص، واحترام الملك، لافتةً إلى أن المصريين جسّدوا صورة العدالة برسم امرأة على رأسها ريشة تُدعى "ماعت"، التي يقول عنها القاضي بتاح حتب: "ما أعظم ماعت، فهي راسخة، أزلية، لم يعتريها التغيّر منذ الأزل، وهي قانون كونيّ أسمى، مَن يعبث به، ينلْ عقابه. إن الشرِه قد يحوز ثروة بالغشّ والتحايل، ثم تأتي المصائب لتذهب بثروته، أما الماعت فتبقى إلى الأدب".

تم التعرّف إلى ديانة االمصريين القدامى من خلال الأدب التعليمي الذي نُقش في معابدهم

انتقلت المحاضِرة بعد ذلك لفهم الصلة بين الأدب التعليمي وبين طبيعة العقيدة التي آمن بها المصريّون القدامى، ولخّصتها تعاليم الملك مري مارع التي تنصّ على أن البشر هم رعيّة الإله، وقد عُني الإله رعاية حسنة برعيته، وهو الذي خلقهم من جسده وتجلّى في السماء من أجلهم وخلق النباتات والحيوانات والطيور والأسماك طعاماً لهم، وأضاء النهار بنوره، وحين يبكون ويتألّمون يسمع شكواهم.

ومن الأدب التعليمي نفسه، يمكن استنتاج عدّة مسائل، بحسب منّة علي، ومنها إيمان المصري بالإله الواحد الذي خلق الكون والبشر، وأن نقاء القلب وطهارته هو أهم القيم، وأن الحياة زائلة وعلى البشر العمل من أجل النجاة من عقاب الإله عند بعثهم بعد الموت، لذلك كانوا يستعدّون ليوم موتهم ويعتبرون مقابرهم بيوت الأبدية، ما يستوجب تهذيب النفس وترويضها والاتّكال على الإله الرازق الذي يمنح الهبات.

وتطرّقت أيضاً إلى نشأة الكون كما اعتقد بها المصريون استناداً إلى مذهب "أون" (عين الشمس)، حيث اتّحد الإله تم (التام أو الكامل) في مدينة الشمس مع رع (قرص الشمس) وسميّ بإله الخلق أتوم – رع، وهو خلَق نفسه بنفسه حيث بزغ من المياه الأزلية، وهو ما يحاكيه شكل الأهرامات، وحين لاحظوا زهرة اللوتس تُغمض عند غروب الشمس وتعود للتفتّح صباحاً، قالوا بأنّ اللوتس ظهرت في المياه الأزلية، وهي مظهر من مظاهر البعث، واللون الأصفر في زهرتها يُضاهي نور الشمس.

ونبّهت منّة علي إلى أن المصريين القديم لم يؤمنوا بالحيوانات والحشرات كآلهة، وإنما رسموها لتذكّرهم بإلههم الذي يظهر نفسه في هذه الكائنات، مثلما نظروا إلى الخنفساء التي تحمل ما يشبه قرص الشمس في نقوشهم، وأنهم تصوّروا "شو وتفنوت" كتعبير عن الهواء والرطوبة بعد خلق الكون، و"جب ونوت" كدلالة على السماء والأرض، و"أوزير" هو الملك العادل الذي يحبّه شعبه، و"إيست" هي الأخت والزوجة المخلصة، و"ست" هو شقيق الملك المتآمر ويرمز إلى الشرّ، و"نفتيس" زوجته وأخت إيست التي أعادته للحياة بعد موته.

وطبقاً للنصوص الدينية، فإن رع يُبحر في السماء برفقة "ماعت" التي تحيل إلى قضية العدالة، و"حجوتي" التي تدلّ على الحكمة والمعرفة، بحسب الباحثة، بمعنى أن الكون والحياة لجميع المخلوقات يرتبطان بمبدأي العدالة والحكمة، وعلى الرغم من الثورة الدينية التي قام بها الملك أخناتون بعد توليه العرش من أجل عبادة الإله أتون، إلّا أن مبدأ "ماعت" ظلّ سائداً.
 

الأرشيف
التحديثات الحية
المساهمون