في محاضرته "تشكّل الهويّات ونزاعاتها في السياقات الكولونيالية" التي قدّمها الإثنين الماضي، يفنّد الباحث التونسي منير السعيداني المقولة الشائعة بأن قضية الهوية لا تهمّ سوى بلدان العالم الثالث أو المجتمعات النامية، حيث إن العلاقة بين المجتمع والدولة والمجتمع وثقافته أو تركيب المجموعات الاجتماعية لا يمكن التفكير فيها بمعزل عن الهوية.
ويرى أستاذ علم اجتماع الثقافة وأنثروبولوجيتها في المحاضرة التي أقامها افتراضياً مركزا "خليل السكاكيني الثقافي" و"الأبحاث الفلسطيني" أن الإشكال الهوياتي يُطرح بطرق مختلفة في العديد من المجتمعات، ومهما كان السياق الذي يقدمّ فيه هذا الإشكال، فإنه بالضرورة سياق ما بعد كولونيالي لأنه يقارب واقع البلدان المستعمَرة والمستعمِرة في العالم المعاصر.
ويلفت السعيداني إلى أن هناك نظرتين للهوية؛ الأولى جوهرانية تعتبر أن هويات المجتمعات أو هويات الشعوب قائمةٌ وثابتة، وذات عناصر مستقرّة، ولا تتغيّر مكوّناتها رغم تقلّبات الزمن؛ أي أنها تنظر إلى الهوية بوصفها جوهراً عابراً للتاريخ والتحوّلات الاجتماعية، والتي تجاوزتها العلوم الاجتماعية منذ فترة ليست بالقصيرة نحو نظرة أكثر مرونة للهوية بوصفها تتشكّل ويعاد تشكلها من جديد، وهكذا دواليك.
يقع ذلك، بحسب المحاضِر، نتيجة أحداث كبرى تتتعلّق بتغيّر نمط الإنتاج وشكل توزيع الثروات داخل المجتمع والممارسات الثقافية المتعلقة به، أو النظام السياسي وخضوعه للاستعمار، كما يوضّح أن هناك جانبا يكون متخفّياً أكثر في هذا التشكّل، ويحدث بشكل غير مرئي تقريباً لأنه يعتمد التحوّلات البطيئة التي يمكن أن تطرأ على نمط عيش مجموعة ما.
تتشكّل الهويات نتيجة تغيّر نمط الإنتاج وشكل توزيع الثروات
ويميل السعيداني إلى أن الهويّة متعدّدة دائماً، وحتى تلك الهويات التي تبدو أحادية أو موحّدة أو فريدة في تميّزها عن غيرها، فإنها تتراكب داخلها ضمن مستويات عديدة وهويات فرعية تشترك في ما بينها بمجموعة من الخصائص وتتابين في خصائص أخرى، ولا تكون العلاقات بينها سِلمية وتوافقية على الدوام، حيث تأخذ أحياناً بعداً متناقضاً وتنحو إلى النزاع على أسس اقتصادية وسياسية واختلاف أنماط العيش في إطار عملية التشكّل الدائم للهوية.
ويستشهد صاحب كتاب "مقدّمات في علم اجتماع الهوية" بإعادة ترتيب عناصر الهوية العربية بعد الدعوة الإسلامية، ليتشكّل المجتمع من جديد، ولم يحدث ذلك على أسس دينية وثقافية فحسب وإنما أتى نتيجة تبعات سياسية واقتصادية وتغيّر إنتاج الثروات وتوزيعها في المجتمع العربي، وتغيّر إنتاج القيم الاجتماعية في المعنى السلوكي والأخلاقي.
ويشير السعيداني إلى أن السياق الاستعماري (الكولونيالي)، وليد تحوّلات اقتصادية واجتماعية شهدتها أوروبا التي بدأت منذ القرن الخامس عشر تُحدث نقلات نوعية في كيفية إدارة الثروة فيها، وفي كيفية خلقها وتوزيع وتعزيز قواها الاقتصادية والمادية ثم السياسية إلى حدّ انتقلت بلدانها من سيطرة داخلية على أسواقها المحلية، بموازاة إزاحة أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية، إلى سيطرة خارجية على بلدان اخرى.
لم يعبّر الاستعمار عن توسع اقتصادي فقط، وفق المحاضر، الذي يوضّح كيف تدخّل أيضاً في نمط العيش للبلدان التي خضعت له، حيث انتقلت بعضها من أنماط زراعية ورعوية إلى نمط إنتاجي يعتمد الصناعة، ما أدّى إلى تغيير التركيب الاقتصادي والاجتماعي، وظهور طبقات جديدة، من شأنه تغيّر العناصر التي تكوّن الهوية، وصولاً إلى ما يسمّى بـ"الإبادة الثقافية" التي مارسها الاستعمار إلى جانب قتل البشر، مضيفاً أن السياق الاستعماري بما يمثّله من بنى مفكِّكة للهويات، يشمل أيضاً ولادة بنى مقاومة لهذا التفكيك، ويمكن إيجاز تاريخ المستعمرات بأنه صراع ما بين هذين الاتجاهين.