تتلاقى في فنّ رسم الخرائط الهندسةُ والفنونُ الجميلة والسياسة. لسوء الحظّ، لا يمكن أن نعتبر هذا اللقاء بريئاً، بل إنّه، في أفضل أحواله، لقاءٌ ماكر: تتنكّر فيه بعض الاهتمامات والأشكال في صور أخرى، فيمرُّ الجميل بالقبيح، الواقعيّ بالخياليّ، الماضي بالحاضر، والأرض بالسماء. الخريطة هنا أفقٌ مفتوحٌ دائماً على الكارثة، وعلى نقاط العالم الساخنة: خرائط للترهيب، وأخرى سريّة لا تُعرض أبداً؛ خرائط مليئة بالأوهام، وأخرى تدعو للحرب.
هنا، في المعرض الذي يخصّصه "معهد بلنسية للفن المعاصر" لأعمال الفنانة الفلسطينية ــ البريطانية منى حاطوم، والذي يحمل اسمَها، تَكثُر الخرائط التي تكشف حاطوم من خلالها عن قلقها بشأن مشاكل الحدود، والنزاعات المسلحة، والمركزية الأوروبية التي تتراقص على حافّة الهاوية، والكوارث المستقبلية التي يسببها التلوث وتغيّر المناخ. المعرض الذي افُتتح في السادس عشر من نيسان/ أبريل، ويستمرّ إلى غاية الثاني عشر من أيلول/ سبتمبر الجاري، يأتي بمناسبة فوز حاطوم بـ"جائزة خوليو غونزاليس" لعام 2020 (يمنحها مجلس مدينة بلنسية الإسبانية)، وذلك نظراً لـ"مساهمتها في تطوير الفنّ الحديث".
يجمع المعرض عيّنة من حوالي ثلاثين تجهيزاً ورسماً ومنحوتةً تدور حول ثلاثة موضوعات: الصراعات، والخرائط، والأشياء اليومية؛ استطاعت منى توظيفها بجمال دقيقٍ، غامض، وخطرٍ، من أجل هدف واحد فحسب: تذكّر هشاشة العالم، التي غالباً ما ننساها، والقيام بذلك من خلال مشاهد محفوفة بالمخاطر.
أعمال تُجسّد القلق الذي يثيره كوكبٌ في حالة خطر دائم
تقوم هذه الأعمال، في جوهرها، على فكرة التواصل العفوي، بحيث يستطيع المتلقي فهم الرسالة ــ أو على الأقل جزء منها ــ بطريقة مباشرة وواضحة: كرة أرضيّة تَرسم بأضواء النيون نقاط العالم الساخنة. هنا، تحديداً، أيُّ إهمال من قبل المتلقّي أو محاولة للّمس ستؤدّي إلى انفجار في الصالة. في الجانب الآخر ثمة قوالب صابونٍ رُسمت عليها تشقّقات وخطوط تفصل بين الأراضي الفلسطينية المحتلّة ويمكن أن تتفتّت وتتلاشى بسهولة؛ إلى الأمام منها كرةٌ أرضية مكوّنة من كُرات زجاجية شفّافة تتأرجح على حافّة هاوية. دائماً ثمة نقطةٌ قلِقة، والخطر يتربّص؛ هناك سجادةٌ سُحبت خيوطها بعناية في فكرةٍ تعبّر عن خواء القارات.
ربما تحاول منى حاطوم عبر هذه المحاولات نسف مفهوم الخريطة وفكرتها، لا سيّما خريطة العالم، لتذكّرنا بحقيقة أساسية: أن جميع الخرائط خاطئة، وأن العالم ليس كما تعلّمناه. بمعنى آخر، إن هذا التجريد لخطوط الأرض والمحيطات وهذه الصور التوضيحية التي تعني "الحدود" أو "سلسلة الجبال" أو "النهر" هي حيَلٌ بسيطة لتحديد الواقع بالطريقة التي تُناسب القوّة المهيمنة لكلّ لحظة. الأشياء موجودةٌ طالما أُطلقت التسميات عليها، وهذا، بدوره، يؤثّر أيضاً على شكل الكوكب وحدود الأمم، وعلى طريقة فهم التاريخ، بشكل أو بآخر.
ما إن تدخل المعرض حتى تصادف تركيبا مدويّاً واستعاريّاً يحمل عنوان "ملجأ 2011"، ويتكوّن من عدّة أكوام من الأنابيب الفولاذية التي تجتمع معاً لتشكّل صورة طيفٍ حضريّ. تعرّضت هذه المادة لعنفٍ واضح. الوظيفة هنا خلْقُ انطباعِ أن ينتقل الزائر بين أبنية مدينةٍ تفحّمتْ وصارت سواداً من جرّاء تفجيرٍ عنيف.
هذه البقعة غير السارّة، تُفسح المجال أمام الزائر للوصول إلى غرفة فسيحة، مزجّجة على أحد جوانبها، حيث توزّعت قطع وأعمال ورقية أخرى ومنحوتات وتركيبات كبيرة اشتغلت عليها منى حاطوم خلال العقدين الماضيين. تميل الفنانة في هذه الأعمال إلى زيادة حجم الأشياء اليومية وتعديلها حتى تصبح كائنات فنية مهدّدة وغير مريحة وغريبة. هكذا، على يدي هذه المبدعة الفلسطينية، تُصبح مبشرة الطماطم كبيرة الحجم أداةً للتعذيب أو شاشةً ممتعة. تُحاول حاطوم أن تعرض عملاً متنوّعاً، شكلاً ومعنىً، وأن تقدّم للجمهور تجربة مادّية ومباشرة من خلال مجموعة من الأعمال الرئيسية، والتي حصل بعضها بالفعل على مكانة أيقونية في الفن المعاصر.
الحدود حيلةٌ لتحديد الواقع بما يناسب القوّة المهيمنة
تركّز حاطوم اهتمامها على ابتكار قطع لها تأثيرٌ عاطفي ونفسي على المشاهد، على الرغم من شكلها البسيط والمختزل. وفي كثير من الأحيان تتعمّد دمج طبقات متناقضة من المعنى لكي تولّد الغموض والتضاد الذي يجعل القراءات والتأويلات كلّها ممكنة. إضافة إلى ذلك، كثيراً ما تلجأ إلى استخدام موادّ جذّابة ومُغرية لكي تتمكّن من خلق أشياء وتجهيزات موحية، ولكن ما إن نقترب منها لرؤيتها، حتى ندرك أن خطراً ما أو تهديداً أو حتى موتاً وشيكاً يحوم حولنا.
ترى منى حاطوم العالم في حالة خطر دائم، في حالة حرب مستمرة، في حالة صراعات تندلع كلّ يوم، بلا انقطاع. ليس هذا فحسب، بل نراها اليوم، في أعمالها أيضاً، تعكس هواجسها القلقة التي تُنذرنا بأخطار أمرَّ وأوحش: تغيّر المناخ، الوباء الذي يهدّد حياتنا وبقاءنا؛ العنصرية إزاء السود؛ حقوق المرأة وغيرها من أوجاع الإنسانية التي تُغمغم في حنجرة هذا الكوكب.
"الفن مفتوح، لا يعرف أجندات سياسيّة. القراءة والتأويل دائماً في ذهن المتلقّي. هذه الأضواء مصنوعة من زجاج مورانو الملوّن. عموماً يعرف الناس أنني فلسطينية ويعتقدون أنها قنابل ضدّ إسرائيل، لكن لا توجد تسمية بأصلها أو وجهتها. يمكن للجميع تفسيرها كيفما شاء. هذا، بالعموم لا يهمّ، ما يهمّني حقيقةً هو التباين في جمال المادة، إتقانها، ومن ثم شعور الخوف والخطر الذي يثيره الشيء المعروض"، توضح الفنانة تعليقاً على بعض أعمال المعرض، لا سيّما عمل "بقعة ساخنة".
لا يُخبرنا التاريخ عن لوحة أطاحت بمستبدٍ أو طاغية، كما لم نسمع عن سيمفونية غيّرت في خريطة هذا العالم وحدوده؛ لكنّ مَن يزور معرض منى حاطوم ويرى أعمالها المليئة بالمخاوف المثيرة للإعجاب والمتّصلة بشكل أو بآخر بإشكاليات هذا العالم، قد تُخلَق في نفسه رغبة في تغيير العالم، بدءاً من حدوده وانتهاء بتاريخه المكتوب بالدم.