يُعد باولو برانكا (1957) من الدارسين القلائل للأدب العربي في إيطاليا ممّن لا يزعجهم لقب "المستشرق"؛ إذ يرى أستاذ الأدب العربي في "الجامعة الكاثوليكية" بميلانو أنّ الاستشراق كأيّ حقل دراسات آخر له ما له وعليه ما عليه، مستنداً ضمنياً إلى الانتقادات التي طاولت كتاب "الاستشراق" لإدوارد سعيد (1978).
وفي كتابه الأخير، "أدب عربي: صفحاتٌ من الأدب العربي من البدايات إلى اليوم"، الصادر عن "منشورات أريس" عام 2020، نُلاحظ الأريحية التي وضع بها الأكاديمي الإيطالي عمله، دون محاولة اللجوء إلى خطابات المستشرقين الجدد في إعلان الاصطفاف خارج حقل الاستشراق الكولونيالي، حيث يحرص هؤلاء عادةً على تأكيد انتمائهم إلى مدرسة سعيد التقدّمية، من خلال التركيز على مواضيع تربط الأدب العربي بأيديولوجيات محبَّبة غربياً للخروج بنتيجة مُرضية لرؤيةٍ لا تجد أي اختلاف جوهري بين الغرب والشرق، وهو الأمر الذي أوقع الدراسات النقدية الإيطالية التي تنتمي إلى هذا التيار في فخّ التكييف المبالَغ به للأدب العربي مع متطلّبات العصرنة والأنسنة، وصلت في السنوات الأخيرة حدَّ التزييف والتسطيح الممنهج للأدب العربي، الأمر الذي كاد يُفقده كل خصوصية.
في العمل الذي يُعدّ، بحسب التقديم الرسمي للناشر، الأنطولولوجيا الإيطالية الأُولى من نوعها عن الأدب العربي بمختلف فروعه، اعتمد برانكا، وهو أحد أبرز الباحثين الإيطاليّين في حقل الدراسات العربية والإسلامية، مقاربة تُزاوج بين النهج الكلاسيكي لدراسة الأدب العربي، وأُخرى تجديدية تعتمد على الاستفادة من أطروحات "الاستشراق" ذاتها.
تنحصر الإحالات بمترجمين إيطاليين اقتُبست ترجماتهم في المتن
وهكذا، نجد أنّ المستشرق الإيطالي المخضرم يعود بالأدب العربي إلى جذوره الدينية في سياق سرد موضوعي ولغة هادئة، لكنّها لا تحفل بتقديم أيّ سند علمي من أجل تبريرها، وكأننا أمام مسلَّمات لا ضرورة للتوسُّع في شرحها. لذا كادت الهوامش في هذا الإصدار، الذي أتى في 288 صفحة وتوزَّع على ثمانية فصول، تنحصر على إحالاتٍ لمترجمين إيطاليّين اقتُبست ترجماتهم في المتن.
ولا تتضمن بيبليوغرافيا بحوث المستعربين الإيطاليّين عادةً أيّ اسم عربي نقدي إلّا في ما ندر، وعادةً ما تكون تلك الأسماء المكرَّسة غربياً، لا أسماء من داخل الأكاديميا العربية؛ إذ لا يشعر الدارس الإيطالي للأدب العربي عموماً بضرورة الاستشهاد بأيّ مرجعية نقدية من داخل الثقافة العربية، عدا عن سلطته المركزية المطلقة.
وكمثال عن ذلك، يخبرنا برانكا، ضمن كلام مرسَل، في الفصل الثاني، "ظهور الإسلام وعصور الازدهار"، أنّ النصّ القرآني وُلد ضمن بيئة "كان يَحسد فيها العربُ اليهودَ على امتلاكهم كتاباً مُنزلاً بلغتهم". وبالرغم من أنّنا هنا نقف على ملاحظة من صنف مألوف في النهج الاستشراقي التقليدي، إلّا أن التجديد لدى برانكا في هذا الحقل يتمثّل في تنفيذ ضربات مضادّة من بوّابة النهج المناهض للخطاب الاستشراقي نفسه، حيث نجده يصنّف مجهودات الخلافة العباسية في الترجمة بأنّها مشاريع تندرج ضمن مشروع استعماري (يكاد يصفه الكاتب بالإمبريالي)، بل نجده يؤكّد، في تبنّ صريح لنظرية المعرفة والسلطة لـ فوكو، أنّ الخلافة العبّاسية كانت تستخدم المعرفة لتكريس هيمنة العرب على بقية الإثنيات وإبراز فوقية الإسلام على الطوائف الدينية الأُخرى لا سيما المسيحية.
وتكفي الإشارة هنا إلى أنّ برانكا كان قد أكّد لنا في فصل سابق أنّ الدين الجديد للعرب استقطب الكثير من الأتباع لأنه يبشّر بالمساواة بين الجميع، وذلك ضمن مجتمع صحراوي مقسَّم بين الأسياد و"حثالة القوم". ليعود ويلمّح لنا في مكان آخر أنّ ميل الخلافة الإسلامية إلى عدم التمييز بين المسلمين وبقيّة الطوائف لا صلة له بتعاليم الدين الجديد، وإنما لكون الخلافة سليلة العقلية البدوية، وحيث إنّ البدو لا يفرّقون بين بعضهم البعض في مجتمع لا هرميات فيه.
التناقُض الذي كان العنوان الأبرز لكتاب برانكا أفقده الكثير من قيمته، إلّا أنّ ذكاء العمل، على الرغم من كلّ هِناته المعرفية وفوضى الأنساق الذي يكتنفه، برز في اختيار الكاتب اقتباساتٍ بدقّة جرّاح من نصوص سردية وشعرية عربية منحت أطروحاته الشرعية أمام غير المطّلعين على السياق الكامل لتلك الأعمال. هذا إلى جانب إظهار الباحث المخضرم قدرة عالية على احتواء الخط الاستعرابي الإيطالي (المناهض للاستشراق الكلاسيكي)؛ حيث نجده في الفصل الثالث "عصر الخلافة العبّاسية في بغداد" يجزم أنّ "شعوب شمال أفريقيا عانت من الصدمة بعد تعرُّضها للفتح الاسلامي، وهي الشعوب التي دخلت في المسيحية قبل أكثر من خمسمائة سنة". ليعود ويؤكّد في مكان آخر أنّ الفرق بين شعوب المشرق والمغرب العربيّين التي تخلّت عن مسيحيتها بسهولة أمام الفاتحين هي عدم تجذّر التقاليد المسيحية فيها. وبغضّ النظر عن أنّنا أمام تصريح آخر نفاه كاتبه نفسه، إلّا أنّ اللافت فيه هو توظيف إحدى أهم مفردات التيار الاستعرابي الجديد في إيطاليا على نحو غير مفهوم: "الصدمة"، وذلك لضمان تمدُّد الفكرة وإيجاد حاضنة لها ضمن تيار نقدي/ أيديولوجي جديد يعتاش على تدوير مفردات مطّاطة وبثّها كيفما اتّفق لدى قراءة أيّ نص عربي.
احتضان برانكا للمستعربين ظهر في مؤلّفه بشكل بارز من خلال استضافة مستعربين وباحثين عرب قدّموا قراءات تكاد تكون موحّدة لأدب البلدان العربية التي تطرّقوا لها كلّ واحدة على حدة لدواعي "التخصص"، وحيث أجمعت المساهمات على أن الأدب العربي المعاصر أتى للتنديد بالحكم العثماني ومن بعده الدكتاتوريات العربية مع تضمين أسماء عدد من المؤلّفين والمؤلّفات مشفوعةً بتواريخ ميلادهم ورحيلهم.
وربّما كان يمكن، لدواع إيكولوجية والحرص على عدم استنزاف الموارد الورقية، حذفُ هذه الفصول ووضع عريضة من صفحتين بأسماء كل المندّدين بالحكم العثماني والدكتاتوريات العربية، دون الحاجة لدفع القارئ إلى صفحات مملّة وشبه متطابقة. والأمر لم يخلُ من مساهمات مختلفة وقيّمة.
ويُعتبر القسم الفلسطيني ضمن هذا الفصل من الفصول اللافتة التي اعتنى بها باولو برانكا؛ حيث أعاد أدب المقاومة الفلسطيني إلى ما قبل الاحتلال الإسرائيلي، أي إلى "الاحتلال العثماني". كما تضمّن القسم تنويهاً خاصاً بمحمود درويش وهو من احتوت نصوصه على إحالات إنجيلية وانفتاحات على العهد القديم كما أكّد الكاتب، موحياً للقارئ أنّنا أمام شاعر عربي تجاوز عقدة أجداده البدو الذين كانوا "يحسدون جيرانهم على كتابهم المقدّس"، في حين أن إحالات كهذه أمر مألوف في الشعر الفلسطيني والعربي الحديث.
يمرّ على فرضيات وكأنّها مسلَّمات لا ضرورة للتوسُّع في شرحها
فصلُ "الأدب العربي المعاصر بحسب البلدان" هذا، والذي كان يمكن الاستغناء عنه أيضاً، يُظهر مع ذلك تشبُّث المستشرقين والمستعربين الإيطاليّين بالنهج الأُفقي لمقاربة الأدب العربي، والذي يعتمد على فكرة تقديم قراءات/ ترجمات أشبه بجرد يتضمّن أكبر عدد من الأسماء، ما يجعل المتخصّص في الأدب العربي في إيطاليا هو من يشتغل عملياً على إحصاء أسماء الكتّاب والشعراء في كل بلد عربي وربط تاريخ نشاطهم بأبرز الأحداث السياسية فيه، دون إظهار أيّ قدرة على الخوض عمودياً في النصوص التأسيسية من أجل فهم البنية العميقة للإبداع والتفكير العربيين، وهو ما يقوّض تلقائياً قدرة هؤلاء على رصد واستيعاب المشاريع الجديدة التي من شأنها أن تُشكّل انعطافات حقيقية في الأدب العربي، وتمييز الغثّ من السمين فيها.
وتجدر الإشارة إلى أن هذا الفصل سبقه فصلٌ يؤكّد على هذا التوجُّه، حمل عنوان "أدبيات الإسلام السياسي". وقد دُرست فيه عناوين لمؤلّفات ورسائل لأسماء من بينها أبو مصعب السوري وأيمن الظواهري (تنظيم القاعدة)، أعقب مباشرة فصلاً مُهدى لعبقرية نجيب محفوظ.
وقد جرى في الفصل تحليل مقاطع من رسائل تتضمّن توجيهات حربية كتبها الظواهري وحصلت عليها وسائل إعلام في ظروف غامضة نقلاً عن مصادر أجنبية، ولكن يبقى الأكثر غموضاً هو اعتبار هذه النصوص تستحقّ الإدراج ضمن مؤلَّف نقدي في الأدب. وأمّا إن كنّا حيال مقاربة قد تَعتبر هذه النصوص إسهامات وجدانية في أدب الرسائل العربي، تجدر الإشارة إلى أنّ هذا اللون لم يتعرّض له الكِتاب من أساسه، كما أنه لم يورد بإسهاب أيّاً من تجارب المجلّات الأدبية العربية، بينما نشرت ضمن هذا الفصل قراءات في المجلّات التي أصدرها "تنظيم الدولة" أي "داعش" أثناء فترة نشاطه، وتحليلات موسَّعة في عناوينها.
وعلى الرغم مما يبدو عليه هذا الفصل من شذوذ، إلّا أنه لا يدع أيّ مجال للشكّ في أن مستعربي إيطاليا لا يضعون حدوداً فاصلة بين الأدب بالمعنى الاصطلاحي والأدبيات الدعائية بمختلف أشكالها. إذ يجدر التنويه إلى أن جلّ الأسماء العربية المترجمة في إيطاليا لا يعرف لها القارئ الإيطالي هوية واضحة، ولا يكاد يعلم إن كان الأمر يتعلّق بشعراء/ روائيّين أو نشطاء سياسيّين واجتماعيّين، أو شهداء أحياء، ليصل الأمر إلى تحويل زعماء تنظيمات كالقاعدة إلى أدباء تُدرَّس نصوصهم ضمن مدوّنة الأدب العربي.
ينهي الكاتب عمله بخلاصة مُنصفة رغم كل ما سبق؛ حيث يكتب أنّ "النص، والعقل والسياق هي عناصر تسير مجتمعة، والادعاء بجهل ذلك من أجل الإعلان أن ثمّة حضارة خالية من أي عقد ولا حدود فيها لحرية التعبير، وحضارة أُخرى لا يظهر فيها أيّ وجه من أوجه التسامح أو الانفتاح هو عملية أيديولوجية مضلّلة قائمة على محض أحكام مبتذلة أو مواقف لا يريد منها أصحابها سوى تنفيذ أهداف مكشوفة".
* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا