تقف هذه الزاوية مع مترجمين عرب في مشاغلهم الترجمية وأحوال الترجمة إلى اللغة العربية اليوم. "أميل إلى العمل المشترك مع محرّر أو أي شخص مختصّ؛ فالترجمة الأدبية خاصّةً ورطةٌ كبيرة"، تقول المترجمة العراقية في لقائها مع "العربي الجديد".
■ كيف بدأت حكايتكِ مع الترجمة؟
- حكاية مضافةٌ إلى الحكايات التي ترجمتُها لأقراني وأهلي في عمر الحادية عشرة، حين أَكمل والدي دراسة الدكتوراه في جامعة إلينوي الأميركية، وعاد محمّلاً بصندوقين ضخمين من القصص الإنكليزية ذات الطباعة الفاخرة. توارى سريعاً خلف قضبان النهاية لنظام البعث البغيض، تاركاً آلاف الأصوات خلفه، تُعلّمني أنّ الآتي مليء بالمفاجآت وعليّ الاستعداد. أحسستُ أنَّ هذه الكتب هي كلامه الذي لم يسعفه الوقت ليقوله. قلّبتُ الأوراق بشغف اليتم المبكر وفاءً له، مع الوقت اختبأتْ هذه المشاعر خلف الحكايات التي ترجمتُها للجميع وكتبتُها في مجلّة بيتية أصدرتُها بنسختين مخطوطتين فقط، واحدة لأمي والأخرى أحملها معي للتباهي البريء.
■ ما هي آخر الترجمات التي نشرتها، وماذا تترجمين الآن؟
- مؤخّراً، أكملتُ ترجمة كتابين لدار الكتب العلمية في بغداد: الأوّل هو "مختصر تاريخ العالم" للبروفيسور جيرمي بلاك، وهو عرضٌ كرونولوجي للحضارة الإنسانية من عصور ما قبل التاريخ إلى الوقت الحاضر. والثاني هو "أعظم مئة عالم غيّروا العالم" للدكتور جون بالتشين. أمّا حالياً، فأُترجم مقاطع من رواية سنان أنطون " يا مريم" لأغراض الدراسة والبحث من قِبل طالبة ماجستير حول المحلية localization في الترجمة. وتعاقدت مع "دار الرافدين" على ترجمة كتاب مراسلات عزرا باوند وجيمس جويس.
■ ما هي، برأيك، أبرز العقبات في وجه المترجم العربي؟
هي امتداد لعقبات الترجمة عموماً بين أي لغتين، ولا نستطيع أن ندّعي أن للغة ما خصوصيتها في حبك معضلة الترجمة ما دام الفارق الثقافي حاضراً وبقوّة. الترجمة تحتاج إلى تجربة مشتركة واستعداد للفهم والتقمّص، فأفضل التراجم لا تَنقل القول بحدّ ذاته وإنما كيف قيل، هذا حول جوهر الترجمة، أمّا العالم العربي فهو متباين في تقييمه لإمكانيات الترجمة واستحقاقها وأهلها في امتلاك برامج ومؤسّسات وخطّة عمل مجدية.
الترجمة وسيلة المعرفة وليست غايتَها بالتأكيد، أؤكد لك أن استقراء الأحداث وامتلاك بيانات ومعلومات كافية يوجّهها مختصّون إعلاميون واجتماعيون ومعالجتها بمراكز تحليل تديرها عقول نبيلة، كانت ستؤمّن البلاد من ويلات كثيرة. نحتاج إلى برامج عمل وخطط وأهداف ومؤسّسات بديلة عن تلك التي اهترأت بفعل التسييس إن وُجدت أصلاً.
■ هناك قول بأن المترجم العربي لا يعترف بدور المحرِّر، هل ثمة من يحرّر ترجماتك بعد الانتهاء منها؟
- بالنسبة إلي، أنا أميل إلى العمل المشترك مع محرّر أو أي شخص مختصّ؛ فالترجمة الأدبية خاصّةً ورطةٌ كبيرة، لأننا لا نعيش حياتين في آن. حقّاً أقول إن دور المحرّر هام جدّاً، وإن كان المترجم بارعاً؛ فالترجمة عالم رباعي الأبعاد وليس خطّاً مستقيماً... كل إشارة مفيدة، كل معلومة وكل رأي أيضاً، ولكن بالنهاية المترجمُ هو من يدير عملية التسوية للمعنى: الخروج بأقل الخسائر.
■ كيف هي علاقتك مع الناشر، ولا سيما في مسألة اختيار العناوين المترجمة؟
- علاقة طيّبة، فغالباً ما نجتمع، ولكلّ منا قائمة من العناوين المرشّحة للترجمة، لنناقش الأنسب، وبالتأكيد للناشر رأيه الذي أحترم، كونه يمتلك مجسّات سوق الكتاب وهوى المتلقّي. مع ذلك، لا تخلو سفرة من قطاف عناوين إنكليزية لا سيما في مجالات الاعتلال النفسي والمجتمعي ومشاهدات الأطبّاء المسجّلة في كتب أعتبرُها دليلاً عملياً لكشف خبايا انفعالاتنا اليومية، خاصة غير الَمَرضية منها. لكن بالتأكيد يتحمّل الناشر مسؤولية شراء الحقوق ومردود المبيعات.
■ هل هناك اعتبارات سياسية لاختيارك للأعمال التي تترجمينها، وإلى أي درجة تتوقفين عند الطرح السياسي للمادة المترجمة أو لمواقف الكاتب السياسية؟
- سؤال مهم، أميل جدّاً إلى المواضيع المعرفية والأدبية والإنسانية، لأنني أقف على أرض من التجربة الواقعية والخلاصات المعرفية. السياسة زئبقية الطبيعة في أحسن حالاتها، لا يمتلك المؤلّف أكثر من التصوّرات والأحداث، وهي من أسهل التراجم، ولكن، وحصل معي سابقاً، أُصاب بغثيان وأنا لم أتحقّق من المادة المراد ترجمتها، حين أكتشف خيوطها السرية وكأنني أشارك المؤلّف الإمساك بورقة التوت البائسة! أذكر حينها أن الكتاب بدأ بخط سير معتدل يؤرّخ لمرحلة ما بعد الاحتلال، وبعد أن عمّ الظلام صفحات الكتاب، يظهر فجأة نور "فلان الفلاني" ليخطف الأبصار، يا للقرف! تركتُ الترجمة لمترجم آخر لم يهتم كثيرا للأمر ورفعت اسمي منها. الكثيرون من أصحاب الأموال اقتحم عالم التأليف ليضع هراءه الضخم مذهّباً في المكتبات ومواقع التصوير.
■ كيف هي علاقتكِ مع الكاتب الذي تترجمين له؟
- في الشعر فقط، أو الرواية، أحرص على التواصل مع الكاتب والاستماع إليه والاطلاع على اللقاءات التي يظهر فيها ولغاته التي يجيد. أحاول تجميع ملامح روحه التي أنتجت ما أترجمه، أستمع إليه كثيراً، وعندها أسمع صوتها أو صوته في النص وأكون قريبةً جدّاً من المعنى. نعم أتّصل به/ بها عند نقطة تحتاج للإيضاح، وهذا ساعدني كثيراً في إنتاج مجموعة تراجم إلكترونية للشعراء العراقيّين على الموقع الأدبي المختص www.iraqi-poet.net. ولا يقف الأمر هنا، فلا بد من رأي المتلقّي الإنكليزي. وأنبّه إلى أنّ المترجم للشعر غير المتلقّي، فلا يشفع له خياله الخاص وفهمه الشخصي لمواطن التأويل. أنا هنا بين بينين وكفة الكاتب أرجحهما.
■ كثيراً ما يكون المترجم العربي كاتباً، صاحب إنتاج أو صاحب أسلوب في ترجمته، كيف هي العلاقة بين الكاتب والمترجم في داخلك؟
- الكاتبة والمترجمة بداخلي عاشقتان ملعونتان! والتعريف الذي أراه الأقرب إلى الحقيقة لوصف الحب هو ذاك الذي وضعه الطبيب النفسي M. Scott Peck في كتابه "الطريق المهجورة": "الحب هو قدرة البناء المتبادل الذي لا يعرف النهاية بين كيانين"، فكلما همّت إحداهما بقيادة النص جاءت الأخرى بالبوصلة.
■ كيف تنظرين إلى جوائز الترجمة العربية على قلّتها؟
- كما ذكرت أعلاه، نفتقر الى الهيكل المؤسّساتي. هذه الجوائز هي زهرة العمل الترجمي بعد فاعلية وحياة المؤسّسات المختصة. ويتبنّاها الميسورون المهتمّون بهذا المجال، وبذلك تتطلّب إحساساً عالياً بالمسؤولية الوطنية الثقافية والمعرفية. في الكويت، عندما زرتُ جناح "المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب"، كان الاهتمام بالترجمة ملفتاً ومفرحاً والباب مفتوحاً للجميع من أجل المشاركة. أرى أنّ الجوائز التي تؤمّن طباعة الكتاب المترجم وأيضاً توفير جائزة مالية سخية تليق بجهد المترجم، مهمّة جدّاً في صناعة اسم يُعتد به، وبالتالي يؤهّل المترجم للخوض في عالم أرحب دون أن يكون المال شغله الشاغل. إنها فرصة الاختيار للمترجم وهي لا تُتاح دائماً.
■ الترجمة عربياً في الغالب مشاريع مترجمين أفراد، كيف تنظرين إلى مشاريع الترجمة المؤسساتية وما الذي ينقصها برأيك؟
- التمويل والسلامة من السياسة بكل أشكالها. الترجمة الفردية تشبه التأليف إلى حدّ ما، لكني أراك تشير إلى المشاريع الترجمية العملاقة التي من الممكن ان يخطّط لها المترجمون سواء كانوا تحت عنوان مؤسّسي أو لا: الخطوة الأولى في كسر هذا السياق هي كسر محدّداته، والنظر إلى مشتركات الشعوب والتحرّك باتجاه جمعها في مشروع إقليمي أو حتى عالمي. كل الجهود الإبداعية اليوم تجد فرصةَ التوجّه العالمي في مشاريعَ تتنوّع قطافُها تنوعَ البشر. خذ مثلاً مشروع Human الموسيقي أو Impulse المهرجان السنوي الذي يبحث في أوجه الإنسان غير المنتهية.. إنه احتفال بالوعي والتفهّم والسمو على سلاسلنا الأنانية. الترجمة الفردية، طريق لشخص واحد أَحبّه الكثيرون في أحسن الأحوال وصفّقوا له.. المشاريع الترجمية، مهرجانات تحتفي بتعدّدية الإنسان واختلافه.
■ ما هي المبادئ أو القواعد التي تسيرين وفقها كمترجمة، وهل لكِ عادات معيّنة في الترجمة؟
- نعم بالتأكيد! الكثير من الماء وطرد الأطفال! دائماً أُجري قراءة أولى للمادة المطروحة للترجمة، وهنا أُعدّ لها ما استطعتُ مِن المراجع والمفردات لكن، لتذويب كلّ رهبة. أنا أستمتع بمعظم النصوص التي أُترجمها؛ فهي لا تُفرض عليّ. وكلّ كتاب هو عالم جديد أو إنسان.. علينا ان نبذل جهداً واعياً ومختاراً للإلمام بجوانبه؛ فالوقت لا يُسعف الاطلاع العشوائي. وأُبقي في بالي أنّني المسؤولة عن حلّ وترحال القارئ في النص المنتج.. فلولا الترجمة لبقي العالم معزولاً بمناطق يحدّها الصمت، كما قيل.
■ كتاب أو نص ندمتِ على ترجمته ولماذا؟
- كانت لي تجارب سابقة غير موفقة بسبب سوء تقديري لمادة الكتاب، وأيضاً بسبب المجاملة التي كلّفتني جهداً ووقتاً كبيرَين، كنتُ على وشك المشاركة في الترويج لبضاعة تالفة... بعيداً عن ذلك، لا أندم أبداً، فحتى الذي لا يستهويني يوضّح لي ملامح ما حولي ويأخذ بيدي إلى ترجمة أصدق وفهم أوضح.
■ ما الذي تتمنّينه للترجمة إلى اللغة العربية وما هو حلمك كمترجمة؟
- أعمال سو مونك كيد، كاتبة أميركة نجحت في نسج المجتمع الأميركي المتلاطم في روايتها "اختراع الأجنحة" و"حياة النحل السرية"، وما يشاكلها من أعمال تبحث في الطبيعة البشرية وتحاكم الظلم المتربّص بضعفها. أحلم بالوصول مع زملائي إلى بناء مكتبة تختصّ بالاعتلال النفسي Psychopathology لا تخجل من الغرائز البشرية، بل تجد الوسيلة لفكّ لغز الفشل الذريع في التعايش معها.. هذه الكتب متوفّرة باللغة الإنكليزية وعلى يد ذوي الاختصاص، لكن الحواجز الشرقية تحول دون وصولها إلى الناس وتكتفي بضخّ كتب التنمية البشرية، بديلاً بائساً تفوّقت أمّهاتنا عليه منذ عقود من الزمن. الترجمة مفتاح سحري ولكن علينا تحديد أيّ الأبواب تستحق حقّاً الجهد والتمويل.
بطاقة
شاعرة ومترجمة عراقية من مواليد 1969 في بغداد، عملت مترجمة فورية منذ 2007. من ترجماتها: "مختصر تاريخ العالم" (2019)، و"أعظم 100 عالِم غيّروا العالَم" (2020)، ولها قيد النشر: "مراسلات عزرا باوند وجيمس جويس". كما صدرت لها مجموعة شعرية بعنوان "الباب الخلفي للنهار" (2015)، وكتابان للأطفال: "العقل الجميل" (2014)، و"صراخ الورقة العالية" (2019). أصدرت أنطولوجيا "عيون إينانا" في جزأين (2012/ 2019) مع بيرغيت سفنسون وميثم الحربي الذي أسّست معه موقع الأدب العراقي المترجَم iraqi-poet.net عام 2015.