تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "لا حل جذريّاً من دون نظامٍ عالميٍّ جديد"، يقول الباحث والمترجم العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- أكثرُ من هاجسٍ في الحقيقة. أحداثُ غزّة الأخيرة فضحٌ جَذريٌّ للمزاعمِ الغربيّة بشأن أيِّ عدالةٍ في النظام العالمي وحقوق الإنسان وحرّية التعبير، وصورة بشعة لحقيقة الكيل بمكيالين. إنَّ "ثياب الإمبراطور الأخلاقيّة" للحضارةِ الغربيّة، رغم كلّ أناقتها الظاهريّة التي ينبهر بها بعضهم، ليست مُهلهلةً فقط، ولا هو عارٍ تماماً فحسب، بل إنَّ جسده ما تحت الثياب شنيع أيضاً. أعتقد أنْ لا حلّ جذريّاً من دون نظامٍ عالميٍّ جديد، إذا ما أُريد ثمّة أمل للفلسطينيّين وللبشريّة ولكلّ المُضطهَدين. عالم جديد لا أقول عنه أكثر جمالاً، بل أقلّ قبحاً على الأقل.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- جعلني أفكّر بحدّة أكبر في مشكلة الألم والمعاناة البشريّة. أتحاشى أحياناً النَّظر إلى الصور الفظيعة لمعاناة غَزَّة لشدَّةِ ما تُسبِّبهُ لي من ألم، ولكنَّها ماثلة في وعيي وفكري. لماذا كلّ هذا الشرّ في العالَم؟ وأيّ حكمةٍ تَكمن وراء وجودنا في عالَمٍ كهذا؟ ويتوسّع هذا السؤال في داخلي: هل فعلاً نحنُ نقتربُ من نهاية العالَم على نحوٍ ما؟ وهل كلّ هذا التدهور الأخلاقي ليس سوى علامات على ذلك؟ أسئلة كهذه لا ترتبط بالتأكيد بأحداث غَزَّة فقط، بل بكلِّ ما بات يُهدِّدُ وجود البشر أصلاً من مخاطر جَمَّة، وَبائيَّة ومناخيّة وأسلحة يمكن أن تبيد البشرية أو جزءاً كبيراً منها واقعاً لا افتراضاً، في ظلّ كلّ الأنانيَة واللّاإنسانيّة واللّامسؤوليّة المُستفحِلة للقوى المهيمنة.
ثياب الإمبراطور الغربي "الأخلاقيّة" لن تخفي شناعته
■ إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- لا أرى للعمل الإبداعيّ خصوصيّة في هذا الشأن. فأصلُ الصِّراع الجاري وحجمه ونطاقه أكبر بكثير. لكلِّ كلمة حقٍّ قيمتها الاعتباريّة دون شكّ، وللإعلام الدّور الأبرز في هذا الخصوص. ورغم أنَّ الفعل الإعلاميّ الكاشف عن جرائم الكيان الصهيونيّ، له أهمّيّته على امتداد العالَم، وكذلك الاحتجاجات الشعبيّة، والمواقف المُشرّفة لبعض الدول بقطع العلاقات مع الكيان ورفع دعاوى قضائية عالميّة ضدّه، فإن ما سيغيّر الأمور فعلاً في النّهاية هو توازن القوى على الأرض: فعلُ المقاومة بصحبة التغيّرات الجارية في النظام العالمي ونهاية حقبة القطب الواحد.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- ليس هناك انفصالٌ بين هذه الجوانب. أنْ يُمارس المرء عملاً إبداعيّاً لا يعني انحصاره فيه، وأن لا يتبنّى أو يتّخذ أيّ مواقف أو أفعال إنسانيّة أو سياسيّة عندما يتطلّب الأمر، وأنّ عليه بالضرورة الانخراط رسميّاً في مؤسسةٍ أو حزبٍ أو مجموعة معيَّنة. لعلّنا في العراق نعرف ذلك جيّداً بحُكم الحروب والكوارث والأهوال لأكثر من أربعة عقود. إنَّ مجرّد تمسُّك الإنسان بكلمة الحقّ، عندما يقلّ أنصاره، رغم ما يسبِّبه له ذلك من ثمنٍ وخسائر، موقفٌ مشرِّف، ولا سيَّما في عَصرنا، عصر الإعلام والتواصل الإجتماعيّ والجيوش الإلكترونيّة، وكلّ ما يرتبط بها من تزييفٍ هائل، يُضيّع الفوارقَ بين المُجرم والضحيّة، أو يقلب دوريهما من الأساس.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- عالمٌ مُتعدِّدُ الأقطاب أكثرَ عدالة. التغيير جارٍ بالفعل، وهناك نظام عالمي جديد يتشكّل وأبرز أقطابه الجُدد روسيا والصين. ولكن يصعب تصوّر اتخاذ هاتين القوَّتين وغيرهما مواقف صارمة لمصلحة الشعب الفلسطينيّ حالياً، خاصة أنَّ الدول العربيّة الأكثر نفوذاً لا تُريد ذلك. فإذا كان صاحب الشّأن، أو من يُفترض أنَّه كذلك، غير متحمّس أو غير معنيّ أو غيَّر خنادقه أصلاً، فهل يُمكن أن نتوقّع من صديقٍ أو غريبٍ اتِّخاذَ مواقفَ حاسمة في قضيّة لا يريد أقرب المعنيّين بها تلك المواقف؟
عالم جديد يتشكّل، في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- محمود درويش. سأقول له: يا أخي، يا من غادرتنا وما زلت بيننا، نحن هنا ما زلنا نقول ما قلتَ ذاتَ يومٍ في قصيدتك "مديح الظلّ العالي"، نعيشها ونشعر بها في الحياة، كالحياة. وسأردّد على مسامعه بعض كلماتها، لعلَّ روحه ترتاح حين تسمع بعض كلماته بصوت غير صوته: "حاصرْ حصارك بالجنون وبالجنونْ/ فإما أن تَكون أو لا تكونْ/ سَقطَ القناعُ عن القناع سقط القناع/ ولا أحدْ/ إلّاك في هذا المدى المفتوح للأعداء والنسيان/ فاجعلْ كل متراسٍ بَلَدْ". كلّ متراس بلد... كل... متراس... بلد...
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- رابطوا واثبتوا وصابروا، أنتم تكتبون ملحمةً من ملاحمِ عصرٍ آذنت حقبته بالانتهاء، عصر يتفتَّتُ في كلِّ مكان، مثل سفينةٍ غارقة، وأنَّ عالماً جديداً يتشكّل، في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية وأماكن أخرى، وفي النهاية سيفرض صوته. إنَّها الأوقات الأخيرة لعصر يلفظ ما تبقى من أنفاسه الكريهة.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- أقول له يا أخي، لا تسمع للإعلام الساعي لتحويل الانتباه بعيداً عن العدوّ الصهيوني صوب جهاتٍ أُخرى مزعومة أو أمور ثانويّة. ألا تكفي معاناة غزّة قرباناً؟ ألا يكفي ما يزيد عن سبعين عاماً من التمادي في أفعال هذا الكيان وداعميه والمتواطئين معه، لنعرف من هو العدوّ حقاً؟
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- أقول لها: يا دارين، لك أهلٌ كُثر، غير من رحلوا من أهلك. سنسير معاً في هذه الحياة على دربهم. سأحرص على جعلها تشعر أنَّ لها أهلاً فعلاً. وأُردِّدُ عليها قول محمود درويش :"على هذه الأرض ما يستحقّ الحياة"، ونتحدّث ونتمعّن فيه. سأحرص على جذوة الأمل في روحها، وأن أجعلها تبتسم، كلّما كان ذلك مُمكناً.
بطاقة
كاتب وباحث ومترجم عراقي من مواليد بغداد عام 1962. صدر له أكثر من عشرين كتاباً في مجالات الفلسفة والفكر والشعر، من بينها: "الأعمال الشعرية 1996- 2009" (2010). ومن ترجماته: "لويس بورخس: 60 قصيدة" (2012)، و"الفلسفات الآسيوية" (2013)، لـ جون كولر، و"ميراث الغائب: قراءة في الحوار الصحفي الأخير مع جاك دريدا وأبرز الفلسفات المعاصرة المناهضة للتفكيكية" (2018)، و"كيركجارد: فيلسوف الإيمان في زمن العقل" (2018)، لـ باتريك غاردنر، و"هل أفضلُ أيامِ البشر قادمة؟: مناظرة رباعية بين آلان دو بوتون، ستيفن بنكر، مات ردلي، مالكولم غلادويل" (2019)، و"الفلسفة: خمسون فكرة جوهرية يجب أن تعرفها" لـ مايكل مور (2023).