مع غزّة: مي رفعت عطفة

24 يناير 2024
مي رفعت عطفة
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وتبيّن كيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "نحن من نعيش في الغرب ملزمون بأن تكون معركتنا معركة وعي وتوعية إزاء القضية"، تقول المترجمة السورية في حديثها إلى "العربي الجديد".


■ ما الهاجس الذي يشغلكِ هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوان إبادة على غزّة؟

هنالك هواجس كثيرة تشغلني أوّلها كيف يمكن إيقاف آلة القتل في غزّة، وكيف سمحَ ويسمح السياسيّون والحكّام العرب باستمرارها. كلُّ ما يحدث في العالم من قضايا فيها ظلم تمسني وتلامس أعماقي وتُقلِقَني منذ صغري. لكنّ القضية الفلسطينية تجري في دمي ولا أغالي عندما أقول إن ما حدث في سورية خلال السنوات العشر الماضية آلمني ومسّ كرامتي، لكن ما حدث في فلسطين وما يحدث في غزّة الآن يؤلمني أكثر. أجهلُ السبب. لكنّني، وبكلّ صراحة، أُدركت حقيقة مشاعري هذه بعد أحداث السابع من تشرين الأول/أكتوبر. لديّ هاجس حول معركة الوجود التي لم ولن أفهمها قط. لماذا يمكن أن يهدّد وجودي كفرد ينتمي لبقعة جغرافية معينة وجودَ فردٍ آخر. لماذا تضيق الأرض ولا تتسع لنا. لو كنتُ فلسطينيةً كيف كنت سأتحمّل هكذا ظلم دون مقاومة. كيف كنت سأواجه مشاعر الثأر والانتقام دون مقاومةٍ لآلة القتل الصهيونية.

■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟ 

أعتقد أنّ العدوان أثّر فيّ كما في أيّ مواطن سوري أو أردنيّ أو مصري. أو حتّى أي إنسان في أي مكان في العالم يعي تماماً مدى خطورة وعواقب ما يجري. في البداية كنت مسمّرة أمام التلفاز وعلى مواقع التواصل الاجتماعي أقرأ الأخبار في الصحف العالمية والإسبانية، على وجه الخصوص، منعزلةً تماماً. شللٌ فكريٌّ وذهنيّ بكلّ ما تعنيه الكلمة أصابني أمام ما كنّا وما زلنا نشاهد من أعمال إبادة وتطهير عرقي وتهجير. عجزٌ وخذلانٌ عربيٌّ وأميركي وأوروبي بامتياز. لكن والحقّ يُقَال اعتراني قليلٌ من الرضى بعد أن شاهدت ردّة فعل الشعوب التي لم تتردّد بالخروج للتظاهر والتنديد بما يجري وشعرت أنّ هذا ما يمكنه أن يؤثّر في القضية أمام النفاق وازدواجية المعايير الغربية والأميركية المستفزّة. أدركت آنذاك أنّ الفجوة بين الحكام والشعوب عميقة ليست فقط في بلداننا العربية، بل في أميركا والغرب أيضاً. مضت شهور على عدوان الإبادة والشعوب لم تكلَّ ولم تملّ من الخروج للتنديد بما يجري. أدركتُ أننا نحن الشعوب في وادٍ، والحكام والأنظمة السياسية وصنّاع القرار في وادٍ آخر للأسف. تخلخلَ روتين حياتي اليومية كما تخلخل كياني ولم أعتد الأخبار ولا مشاهد الإبادة ولن أعتادها. نحن من نعيش في الغرب ملزمون بأن تكون معركتنا معركة وعي وتوعية إزاء القضية، فلا بدّ للضجيج الذي يمكن أن تصدره معركتنا هذه أن يؤثّر ويعمل على إيقاف عدوان الإبادة هذا.

■ إلى أي درجة تشعرين أنَّ العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

أنا شخص حالمٌ جداً، لذلك أريد دائماً أن أؤمن بمقولة مارتن لوثر كينغ: "يجب أن تكون الوسيلة التي نستخدمها بنفس نقاء الغاية التي نسعى إليها". فغايتنا هي السلام والوسيلة إليه يجب أن تكون نقيةً نقاء الإبداع. علينا العمل على أن يكون الإبداع فعّالاً ومؤثّراً. كما ذكرت في البداية شهد العالَم حراكاً مناصراً لغزّة يدعو للتفاؤل فكم من الأغاني عادت مجدداً وصدحت في الساحات الأوروبية والأميركية كأغنية "تحيا فلسطين" لفرقة "كوفية" السويدية الفلسطينية، وكيف تحوّلت إلى أيقونة لدعم غزّة في الغرب. وكذلك من هنا في إسبانيا، رأينا كيف خاطبت النجمة الإسبانية إيتزيار إيتونيو أهالي غزّة في وقفة احتجاجية حاشدة، وسط بلدة غرنيكا دعماً لفلسطين: "من غرنيكا التي شهدت أوّل قصف مدني عشوائي على مدار التاريخ، من الذاكرة التاريخية لموتانا وجرحانا ودمارنا، من غرنيكا إلى فلسطين، من غرنيكا إلى العالم. لا يمكن للتاريخ أو العالَم أن يتحمل دمار شعب واحد، لا ينبغي للعالَم والتاريخ أن يتحمّلا ما يحدث في فلسطين، ولا يجب على العالم والتاريخ أن يقبلا بغرنيكا جديدة". وهناك أمثلة كثيرة على وقفة الإبداع وتأثيره لكنها أمثلة للأسف لا تفتأ أن تكون فردية.

■ لو قيّض لكِ البدء من جديد، هل ستختارين المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟ 

أؤكد لك أنني لن أختار العمل السياسي. يخطر في بالي قول ابن المقفع: "ولايةُ الناس بلاءٌ عظيم". ولن أختار العمل الإنساني على الرغم من أنني أشعر بأنّه عملٌ يمكن له أن يكون مُرضياً، لكنني أضعف من أن أتحمّل ما يقاسيه الناس، وأغبطُ أصدقاء وأقارب لي يعملون في المجال الإنساني، أغبطهم على شجاعتهم. 

■ ما هو التغيير الذي تنتظرينه أو تريدينه في العالم؟

في الواقع لا أنتظر شيئاً من العالَم، فقط أحلم. أحلم بعالمٍ لا يقبلُ فيه الفردُ على الآخرين ما لا يقبلُه على نفسه.

■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودين لقاءها، وماذا ستقولين لها؟ 

أودُّ لو أقابل ناجي العلي. أعشق ريشته التي كانت قلبه النابض والتي دفع حياته ثمناً لها. لقد رحل ناجي لكنّه لم يغب، سألتقيه وسأقول له: ما زالت "فاطمتُكَ" يا ناجي تُقاوم ولا تُهادن، وما زال "رجلك الطيّب" رمزاً للفلسطيني المُشَرَّد المقهور، وما زال "حنظلتك" الطفل ذاته بلا ملامح، وما زال "سَمِينُك" الذي لا أقدام له سوى مؤخّرته يمثّل القيادات الفلسطينية والعربية المطبّعة والخائنة.

■ كلمة تقولينها للناس في غزّة؟ 

سأصمت أمامهم. سأصمت خجلاً. أخجل من نفسي أمام آلامهم وصبره. أخجل أمام ثباتهم وعزيمتهم.

■ كلمة تقولينها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

إنّه لشيءٌ مؤلم بالنسبة لي أن أقول إنّه في اعتقادي أنا التي ترعرعت على شعارٍ آمنت به حدّ الثمالة، شعارٌ أتقنت ترديده لكنني لم أتقن فعله "أمّةٌ عربيةٌ واحدة ذات رسالةٍ خالدة"، كم أحببته. لكن في الواقع لم يعد هناك إنسانٌ عربي، أو ربما منذ البداية لم يكن هناك إنسان عربي. يوجد إنسان سوري ومصري ويمني ولبناني وأردني... لم تعد القضية الفلسطينية قضية عربية، إنّها قضية الفلسطيني وحده، فهو من سيحرر أرضه. لقد خذلناه. غزّة عرّتنا مرةً أخرى حتّى إنسانياً.

■ حين سئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقولين لدارين ولأطفال فلسطين؟

يا إلهي! أيُّ كلمةٍ يمكن لها أن تليق بحجم مصابها! كم أودُّ لو أقول لها اطمئني يا صغيرتي، ففلسطين اليوم أقرب من أي وقتٍ مضى، هذا الكيان الإسرائيلي اليوم أضعف من أي وقت مضى، العودة اليوم أقرب من أي وقتٍ مضى. لكنني لن أجرؤ، بل سأصمت وأمدّ ذراعيّ وأحضنها وأغمض عينيّ عليها، لعلّي أحمي ما تبقّى من حلم طفولتها.


بطاقة 

مترجمة سورية من مواليد مصياف 1978، وتقيم في إسبانيا. حاصلة على إجازة في الأدب الإنكليزي من "جامعة دمشق"، وعلى الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من "جامعة كومبلوتنسي" بمدريد عام 2012. صدر لها في الترجمة عن الإسبانية رواية "أشلاء" للكاتبة والصحافية تيريسا أرانغورِن (دار الحوار، 2011). لها العديد من الترجمات الشعرية إلى الإسبانية. 

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون