تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر في إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "المجال الإبداعي فعلٌ نضالي وإنساني وتأثيرُه أمضى من السياسة"، يقول المترجم العراقي في حديثه إلى "العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- التحرُّك لنصرة الغزيِّين لا يُفارق عقلي ولا قلبي ولا مشاعري، ويشغلني على الدوام. والحقّ أقول: إنّ العينَ لتدمع والقلب ليحزن؛ وأنا أشاهد أطفال غزّة ونساءها وشبابها وشِيبها تُقَطّعُ أشلاؤهم وأجسادُهم، بهمجيَّة ووحشية لم يشهدها التاريخ الحديث ولا القديم. والألم يعتصرني وأنا أرى المجتمع الدولي قد اتَّخذَ موقف المتفرِّج، بل لم يحرّك ساكناً لوقف الإبادة الجماعيّة لأهل غزّة. والأكثر إيلاماً بصدق، هو موقف الحكومات العربيّة التي صمتت وكأنّ على رؤوسها الطير. فإذا بها تميلُ نحو القاتل الصهيوني تسانده ضدّ المقتول.
■ كيف أثّر العدوان في حياتك اليومية والإبداعية؟
- أصابني بالشلل. شخصياً أترأسُ مؤسسة علميّة ثقافيّة في العراق، وهي "جمعيّة المترجمين العراقيين"، والتي اعتادت أسبوعيّاً على تنظيم فعاليّاتٍ ثقافيّة وعلميّة متنوّعة، في الترجمة والأدب والشعر والمسرح والموسيقى وتعليم اللغات، وغيرها من الفنون والآداب. ولكنَّ العدوان الصهيو-أميركي على غزّة قد أثّر كثيراً في قُدرتي على تنظيم هذه الفعاليات؛ بسبب الألم الذي أصابني جرّاء الدماء البريئة التي تُسفك دون ذنب. مثالٌ بسيط: لدينا نادٍ اسمُه "نادي سينما الطفل"، وكنّا قد خطّطنا لعرض أفلامٍ وتنظيمِ مهرجانات ترفيهيّة للأطفال خلال عطلة نصف السنة، إلّا أنني عَلّقتُ هذه الفعاليات تضامناً مع أطفال غزّة الذين تُبيدهم آلة الصهاينة بالمئات يوميّاً.
رفْضُ العدوان قضيّة إنسانية وحّدت الملايين حول العالَم
■ إلى أي درجة تشعر بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- بالتأكيد لأي عملٍ إبداعي دورٌ كبيرٌ وكبيرٌ جدّاً في رفض المظالم والاعتداءات، وكلّ أنواع التجاوُزات. فالشعر والمسرح والموسيقى والفنون التشكيليّة والرّواية والقصّة، كلّها تلعبُ دوراً كبيراً في تغيير المواقف، والضغط على أصحاب القرار لرفض أي تجاوزات وانتهاكات ضدّ القيم الإنسانية. ولذلك نرى أنّ مئات الآلاف من الفنّانين والمُطربين والرّسّامين والشعراء والفلاسفة والكُتّاب، قد وحّدتهم إنسانيَّتهم وصدَحت أصواتهم عالياً في رفض الإبادة الجماعيّة لسكّان غزّة، وشكّلوا ضغطاً كبيراً على حكوماتهم، وخاصة في أميركا وأوروبا التي لم تتوقّف حكوماتها عن مساندة العدوان الصهيوني الوحشي ضدّ سكّان غزّة.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- المجال الإبداعي، الذي هو بالأساس فعلٌ نضالي وإنساني، أمضى وأكثر تأثيراً من العمل السياسي. هذا ما اخترته وما سأختاره. ولأنَّ الترجمة إبداعٌ مقاوِم، أصدرتُ في الأسبوع الثالث من العدوان الصهيو-أميركي الوحشي كتاباً بعنوان "قصائد غربيّة مناهضة لحرب الإبادة الجماعيّة على غزّة"، والذي لاقى صدى كبيراً في العالم العربيّ، لأنّه صدر في الوقت المناسب، بعد أن تناقلته وسائل الإعلام المحليّة والعربيّة. ويضمُّ الكتاب في قسمهِ الأول توثيقاً لأهمِّ التحرُّكات والتظاهُرات والتجمّعات التي طافت العالَم رفضاً للإبادة الجماعيّة التي جرت وتجري. فيما ضمّ القسم الثاني منه قصائد مُترجمة إلى العربيّة، لشعراء من أميركا وروسيا وأستراليا ونيوزلندا والهند، ومن مختلف أوروبا، أعلنوا فيها عن مساندتهم لغزّة وأطفالها ضدّ ما سمّوهُ علناً بـ"حرب الإبادة الجماعيّة". وقد أهديتُ الكتاب لأطفال غزّة، وهو أقلّ ما يُمكن تقديمه.
■ ما التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- العدالة والمساواة وتطبيق حقوق الإنسان، والتخلّص من سياسات الكَيل بمكيالين والنظر بعين واحدة. نعرف كيف ينظر الغربيّون إلى فلسطين، وكيف ينظرون إلى "إسرائيل" أو إلى أوكرانيا. أحد تقارير "الأمم المتّحدة" عن حقوق الإنسان، يَقتبس من عهد الإمام علي، عليه السلام، إلى مالك الأشتر ما نصّه: "وأشعِر قلبكَ الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم واللطف بهم، ولا تكونَّنَ عليهم سَبُعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان، إمّا أخٌ لك في الدِّين، وإمّا نظيرٌ لك في الخلق". ولذلك أتمنّى على الغرب -وأنىّ له ذلك- وقف سياسة المعايير المزدوجة مع شعبنا الفلسطينيّ، خاصة أهل غزّة الذين يعيشون في سجنٍ مُرعبٍ منذ أكثر من 75 عاماً. ليتَهم يطبّقون ما جاء في "الإعلان العالمي لحقوق الإنسان" بصدق دون تسويف.
أصدرتُ كتاباً جمعتُ فيه ترجمات لقصائد غربية مناهضة للإبادة
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
- في كلِّ الأحوال، سأودُّ لقاء الحسين بن علي بن أبي طالب، مقاوماً ورافضاً للذلِّ والظلمِ والعدوان، وهو الذي قال كلمته "هيهات منّا الذلّة". فهوَ موقفٌ وكلمة. وهنا أقتبس ما قاله المسرحي عبد الرحمن الشرقاوي في مسرحيته "الحسين ثائراً": "أتعرِفُ ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنّة في كلمة، ودخول النار على كلمة، وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حرمة، الكلمة نور، وبعض الكلمات قبور، وبعض الكلمات قلاع شامخات يعتصم بها النُّبل البشري، الكلمة فرقان ما بين نبي وبَغيّ، بالكلمة تنكشف الغُمّة، الكلمة نور ودليل تتبعه الأمّة". ولذلك سنستمرّ في نثر كلمات الرفض لكل أنواع الظلم والاضطهاد، ونُصرّح "كلّا" بوجه الصهاينة وشركائهم في دم أهل غزّة.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
- إنْ خَذلكم البعض مِمَّن كُنتم عليهم تعوِّلون، فإنَّ شعوب العالَم الحرّة، بفنانيها وموسيقييها وشُعرائها وكتّابها ومفكّريها ومقاوميها، ستبقى تطلق صرخاتها المدوّية التي ستهزّ عروش الصهاينة الغاصبين القتَلة وهم إلى زوال "إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَرَاهُ قَرِيباً".
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
- كونوا أحراراً. لا تعوّدوا أبصارَكم وبصيرتكم على مشاهِدِ أطفال غزّة تُقَطَّعُ أجسادهم. هبّوا لنصرتِهمِ وامنعوا عتاة الصهاينة عن الأطفال والنساء. تُفلحوا.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
- أقول لدارين ولأطفال غزّة ما قلته لهم في بداية كتابي "قصائد غربية مناهضة لحرب الإبادة الجماعية على غزة": يا أطفال غزّة صبراً. ثم اقتبست قول الله العزيز "إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ".
بطاقة
مُترجم وكاتب عراقي من مواليد بغداد عام 1965، حاصل على شهادتي دكتوراه؛ في الأدب الإنكليزي، وفي الأدب الروسي. يرأس "جمعية المترجمين العراقيين" منذ عام 2017.
له في الترجمة إصدارات عديدة من بينها: "قصائد مناهضة للحرب على العراق" (2019) لمجموعة كتّاب عالميِّين، و"إنخيدوانا شاعرة سومر: مقالات مُترجمة حول أوّل شاعرة في التاريخ" (2019)، و"مسرح الكابوكي الياباني: نشأتُه وتطوّره وأهمّ تقنياته ومسرحياته" (2020) لجيفري هيز، و"لويز غليك: حياتها وأسلوبها وأهم قصائدها" (2020) لمجموعة مؤلّفين، و"العجائب الموجودة في المدن الكبرى والبحار والجزر: نماذج من أدب العجائب في اللغة السريانية" (2022) لسيرغي مينوف، و"موسوعة ثورة العشرين الكبرى"، في ستة أجزاء (2022) لمجموعة مؤلّفين، و"قصائد غربيّة مناهضة لحرب الإبادة الجماعية على غزّة" (2024).
ومن مؤلّفاته: "رحلة في عالم الترجمة والأدب" (2019)، و"نصائح في الترجمة التعاقبية" (2020)، و"عبد الرزاق قرنح: قراءة نقدية في أبرز رواياته" (2021).