مع غزّة: فريد الزاهي

13 سبتمبر 2024
فريد الزاهي
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "لا انفصال للكتابة عن العمل النضالي والسياسي"، يقول الباحث والناقد والمترجم المغربي فريد الزاهي في لقائه مع "العربي الجديد".



ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟

- نحنُ هنا بالمغرب نعيش على بعد آلاف الكيلومترات من فلسطين، بيد أنَّ هذه المسافة القَصِيّة لم تكن قطُّ مسافة للتجاهلِ أو النسيان. لقد كان المغاربة واليسار منهم بالأخصّ يعتبرون القضيّة الفلسطينيّة قضيّة وطنيّة تلتحم بهُمومهم، وهُم ما زالوا كذلك، على طريقتهم، بشكل شخصي أو جماعي. سأكون مخادعًا إذا قلتُ إنَّني أقفُ يوميًّا أمام التلفاز لتَتبُّع الأحداث في غزّة، كما سأكون مُدّعيًا إذا قلتُ إن ذلك هاجس يوميٌّ لي. لكنّي أعيش ما يجري من عُدوانٍ وتقتيلٍ وتهجيرٍ وتدمير وخرابٍ مثل وخزاتٍ داميةٍ تُفجّر فيَّ ما تركته السنون من غضب وتمرّد وصراخ. وما يصلني من مآسٍ يشكّل إيقاعًا مُرعبًا موازيًا لسيولة اليومي. 


كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟

- أنا لا أكتبُ الشِّعرَ أو الرّواية. وعملي فكريّ محض، يُمسك بالأحداث والوقائع والأفكار والقضايا ليعيد تركيبها وتحليلها، مع ما قد يكتنفه من بُعدٍ شعريٍّ أو ذاتيّ. لذلك، بعيدًا عن مبدأ الشرّ البشريّ الذي صَنع التاريخ منذ القدم، يبدو لي أنَّ التقدّم البشريّ قد ارتبط بالاستعمار منذ بدايات القرن التاسع عشر، وأنّ الكيان الصهيوني استُنبت في هذه الفترة. بيد أنه أضحى رهانًا لوجود الاستعمار الجديد واستمراره. لقد كتبتُ بعض المقالات التحليليّة لموقع "ضفّة ثالثة"، عن مواقف بعض المفكّرين الغربيّين من فلسطين. كما لم أفوّت فرصة لأسعى لإدراك ما يقع اليوم، من هذا الطرف وذاك. إنّها همجية لا تتطلّب منا فقط التنديد، وإنما أيضًا التفكير في هزائمنا وخيباتنا وإخفاقاتنا ونكوص أحلام وتغير أشكال الصراع في المنطقة.


إلى أي درجة تشعر أن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟

- أعتبر أنَّ الشِّعرَ ظَلَّ ولا يزال، إبداعيًا، الأقدر على احتواء اللحظة واستشفاف ضراوتها. بيد أن استمرار المواجهات والإبادة لشهورٍ عديدةٍ يستنفرُ الفِكرَ والتحليل فينا، بالرغم من أنَّ ما يقعُ يوميًّا يجرفنا لعيش التفاصيل، المتكرِّرة منها والمتشابهة، كما تلك التي تأخذ أشكالًا أشدَّ ضراوة. ثَمّة حرب للصور موازية للعدوان. وفي اعتقادي أنَّ الصور طغت على اللغة والكلام والإبداع. بل هي صارت مصدرًا له. لهذا أعتبر أنَّ أحداث غَزّة بطابعها المجاوز للمتوقّع، تُخْرِسُ الكلام وتحبط ذكاء اللغة. إنّها وقائع تكاد تخرج من الخيال الوحشيّ الذي نجده في بعض الأفلام. هذا الطابع يجرُّ اليوم المثقّفين إلى الكتابة الانفعالية (المبرّرة طبعًا). ومع انحسار دور المثقّف العربيّ منذ مدّة، ثمة ضرورة للتفكير وإنتاج الرؤية التي قد تجعلنا نفهم ما يجري بدقّة. 

الكيان الصهيوني رهان لوجود الاستعمار الجديد واستمراره


لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟

- لم يكن لديَّ منذ يفاعتي قطُّ انفصال بين العمل النضاليّ والسياسيّ والكتابة. وبالرغم من اختيار البحث والكتابة والترجمة مجالًا لانشغالاتي، فإنَّ الهاجس السياسيّ والنضاليّ يظلُّ ساكنًا فيها بشكلٍ أو بآخر، وأن نُمارس اليوم بطريقةٍ جديدةٍ ومُمَيّزةٍ وناجعةٍ دورنا، هو في حدّ ذاته نضال ضدَّ سيادة التفاهة والسيولة وثقافة الاستهلاك البصريّة الشائعة. وأن نُدرك تحولات الثقافة ومعها تحوّلات العالَم أمر يجعلنا نمارس فعلنا بشكل أو بآخر. لقد انتهى دور المثقف التقليديّ أو هو يكاد. وإذا لم ندرك ذلك فإننا سنظلّ في حظيرة ثقافة تقاوم الاحتضار البطيء.


ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- مهما كانت أحلامنا فإنَّها ظلّت تتهشَّمُ على صخرةِ الواقع والوقائع. نحنُ لم نستطع تغيير مغاربنا ولا عالمنا العربي، فما بالك بتغيير العالم. تغيير العالم حلمٌ ينتمي للقرن الماضي. لاحظ معي أن كورونا، وهي وباء، قد حقَّقت نقاءً للأجواء لم نعهده منذ زمان. الهمّ الإيكولوجي والصحّي والتعليمي أضحت هي التغييرات المطلوبة على المدى الطويل. أمّا التقدّم الاقتصادي فإنّه لا يجرّ معه غير الحروب والمظالم بين الجيران. وحَريٌّ بهذه العولمة التي تجتاح العالم وتحوّله إلى قرية صغيرة أن توحّد الأذهان عِوضّ أن تخلق حروبًا من نمط جديد. تُغيّر الرأسمالية الوحشية جلدها. وهي اليوم تجد متنفَّسًا لهيمنتها بافتعال الحروب وإعادة تقسيم العالم والسيطرة الرقميّة عليه.

همجيّة تتطلّب التفكير في نكوص الأحلام وتغيّر أشكال الصراع


شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟ 

- عبد الكريم الخطابي، المناضل ضدّ الاستعمار الإسباني. كنت سأسلّم عليه وأُعانقه من غير أن أقول له شيئًا؛ حتى لا يكتئب أكثر.


كلمة تقولها للناس في غزّة؟

- اعذرونا إن نحن ظللنا مكتوفي الأيدي أمام أهوال مأساتكم. فما باليد حيلة غير أن نشارككم جراحكم عن بُعد. القلب ينبض من أجلكم، ونحن، مثقَّفي هذا الوقت، كُسرت أجنحتنا وتهاوت أوهامنا، ولم يعد لنا سوى حدّ كلمة صدئة أضحت صدى في وادٍ. لكن تأكّدوا أن مأساتنا غائرة، وطعامنا أضحى مُرًّا أمام جوعكم، وماؤنا عَكِرًا أمام عطشكم. 

الرأسمالية المتوحّشة تُغيّر جلدها وتجد متنفَّساً لها بالحروب


كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟

- الإنسانُ العربيّ أضحى وهمًا قوميًّا ومشروعًا هُلاميًّا، شتاتَ حلمٍ تبدّد، كيانًا يجتَرُّ هزائمه المتوالية، ويمنح الفرصة لقوى الظلام كي تتحكّم فيه. لذا، ليس لي ما أقوله له سوى هذا.


حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟

- عزيزتي دارين، أرى فيك بنتًا من بناتي الثلاث. أرى فيك الصبيّة الجَريحة التي تعيش الفقدان في أَجلى مظاهره. إنَّهم يسرقون منك طفولتك بأسلحتهم الفتّاكة. ليس لي غير أن أَحضنك وأُكفكف دمعك. ليس لي غير أنْ أحبّك.



بطاقة
باحث وناقد ومترجم مغربي، من مواليد عام 1960. حاصل على الدكتوراه في الأدب من "جامعة المولى إسماعيل" بمكناس، ودكتوراه في الدراسات العربية والحضارة الإسلامية من "جامعة السوربون الرابعة" بباريس، من مؤلّفاته: من الصورة إلى البصري: وقائع وتحوّلات" (2018)، و"عبد الكبير الخطيبي: الكتابة والوجود والاختلاف" (2024). ومن ترجماته: "الخيال الخلّاق في تصوف ابن عربي" لهنري كوربان، و"أنثربولوجيا الحواس: العالم بمذاقات حسّية" لدافيد لوبروتون.

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون