- يرى الإبداع والمعرفة كأدوات مقاومة ضد الاحتلال، مشيرًا إلى استهداف الاحتلال للكتّاب والفنانين الفلسطينيين، ويؤكد على ضرورة أن يكون الإبداع ملتزمًا بالقيم الإنسانية لمواجهة الظلم.
- يعبر عن إعجابه بالشاعر أمل دنقل كمثال للإبداع المقاوم، ويوجه رسالة لأهل غزة والعالم العربي، مؤكدًا على أن فلسطين هي اختبار للعروبة والإنسانية، ويدعو لدعم القضية الفلسطينية.
تقف هذه الزاوية مع مبدع عربي في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على إنتاجه وحياته اليومية، وبعض ما يودّ مشاركته مع القرّاء. "فلسطين هي الاختبار الأكبر لعروبتنا وإنسانيتنا معاً"، يقول أستاذ البلاغة والباحث المصري عماد عبد اللطيف في حديثه لـ"العربي الجديد".
■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظل ما يجري من عدوانِ إبادةٍ على غزّة؟
- أكتب هذه الأيام افتتاحية العدد الثامن من مجلة "خطابات"، والمخصص لدراسة خطاب الجوع. وكلما أمسكتُ القلم أتذكّر حال مئات الآلاف من الفلسطينيّين، تُمارَس عليهم حرب تجويع وترويع، لم يشهد العالم مثيلاً لها منذ عقود. هناك مجاعة حقيقية، يجوِّع فيها احتلالٌ مجرمٌ شعباً كاملاً؛ كي يجبره على قبول الذل والانكسار. والأكثر إيلاماً أن تجويع الفلسطينيين، وتشريدهم، وقتلهم، تتم تحت مرأى العالم بأسره ومسمعه. لقد خصّصنا عدداً لخطاب الجوع في مجلة "خطابات" قبل الأحداث الراهنة بعام ونصف، لكن إخراج العدد في ظلّ هذه الظروف يجعل الحساسية للكلمات ذاتها مختلفاً. فجوع الغزّيين يجعلنا نرى الجوع بأعيننا، وحشاً طليقاً يفترس شعباً بأكمله، على مرأى البصر.
■ كيف أثّر العدوان على حياتك اليومية والإبداعية؟
- وأنا أكتب هذه الكلمات، يكون قد مرّ على بدء العدوان الوحشي حوالي خمسة أشهر. مرّت تلك الفترة كأنها دهر، ومررتُ خلالها بفترات تقلّب شتّى. في البداية امتصتني الأحداث، كنتُ مشغولاً طوال يومي، وفي أحلامي أثناء نومي، بما يحدث، لا أتوقّف عن مشاهدة الأخبار، ومتابعة الصحف، والكتابة في الصحف وفضاءات التواصل الاجتماعي عما يحدث. اعتذرتُ عن كثيرٍ من الأنشطة غير الملزمة، وأجَّلتُ ما يمكن تأجيله من الملزم منها. استمر هذا الامتصاص الكامل للحياة فترةً، عانيتُ فيها إنهاكاً عقلياً ونفسياً شاملاً. فالحرب لم تدر رحاها في فلسطين المحتلّة فحسب بل في بيت كلّ إنسان حرّ، يتألّم لمعاناة شعب مقهور، يُعاني من إبادة جماعية. وكان من الضروري استعادة القدرة على الحياة حتى يمكن الاستمرار والمواصلة. وكانت المرحلة الثانية محاولة لاستعادة درجة من التوازن النفسي والعقلي، وكان من نتائج ذلك تحويل الانشغال بالحرب إلى عمل معرفي منتِج من خلال اقتراح مشاريع بحوث جماعية تدرس خطابات الحرب دراسة علمية.
الحرب ليست في فلسطين فحسب، بل في بيت كل إنسان حرّ
■ إلى أي درجة تشعر بأن العمل الإبداعي ممكنٌ وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم؟
- الإبداع والمعرفة سلاحا تحرير وتحرّر، لا يقلّ أثرهما في حسم الحروب كثيراً عن القنابل والصواريخ. وقد أدرك الاحتلال الصهيوني هذه الحقيقة، على نحو ما يتجسّد في عبارة إرهابية قالتها غولدا مائير التي وضعت خطة لاغتيال الكتّاب والأدباء والفنّانين الفلسطينيّين قبل خمسين عاماً. فبعد اغتيال المناضل المبدع غسّان كنفاني، قالت الإرهابية غولدا مائير، رئيسة وزراء كيان الاحتلال حينها: "اليوم تخلّصنا من لواء فكري مسلّح. فغسّان بقلمه كان يشكّل خطراً على إسرائيل أكثر مما يشكّله ألف فدائي مسلّح". وليس في كلام الإرهابية مائير أيّة مبالغة، فالمبدع الحق هو جيش تحرير موازٍ. فالإبداع الإنساني الأصيل يُعرِّي التلاعب والكذب، ويدعم الحقّ والعدل والخير والجمال. ومن ثمَّ، فإنه يمثّل خطورة كبيرة على الاستعمار الصهيوني الذي يتنفّس التلاعب والكذب، ويتعمّد قتل الحقّ والعدل والخير والجمال.
لو نظرتَ حولك في كل مكان ستجد أدلّة هائلة على الحرب التي يشنّها الكيان الصهيوني على المبدعين والفنانين النبلاء في كل أرجاء العالم. فهو يمارس أشكالاً من الاغتيال المعنوي، والعقاب المادّي لكلّ من ينحاز إلى حقّ الشعب الفلسطيني المحتل في تحرير أرضه، ويقدّم رشاوى مادية ومعنوية هائلة لكلّ من يبيعون ضمائرهم، ويدعمون الاحتلال الغاشم. تستعمل الصهيونية العالمية كل أدواتها القذرة لتكميم أفواه الفنانين والأدباء، وتستغل سيطرتها الشيطانية على وسائل إعلام وترفيه، وجامعات، ومراكز بحث، وصناع سياسات، ومؤسسات تمويل لإكراه مبدعي العالم على التأييد أو الصمت. قبل فترة استُبعد الفنان باسم يوسف من فيلم "سوبرمان"، وقبله استُبعدت ميليسا باريرا من فيلم "الصرخة 7"، وقبلهما ألغى معرض فرانكفورت للكتاب تكريم الروائية الفلسطينية عدنية شبلي. وذلك كلّه لأن باسم وميليسا وعدنية انحازوا إلى إنسانيتهم وإلى حقّ البشر في الحرية والعدل والمساواة. وما جرى لهم حدث لكثيرين مثلهم آخرين. ولكي يكون العمل الإبداعي فعّالاً بحقّ في أي صراع من أجل الحرية يجب أن يكون إبداعيًا بحق، أي أصيلاً مبدعاً متقناً. كما يجب أن ينحاز إلى القيم الإنسانية الكبرى مثل الحق والخير والجمال، فلا ينخرط في كراهية مضادة، أو تلاعب مماثل لما يقوم به الاحتلال. يجب أن يكون المبدع الداعم للتحرر أخلاقياً كي ينسجم إبداعه مع أخلاقية مواجهة الاحتلال الصهيوني لشعب فلسطين.
■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعي أو مجالاً آخر، كالعمل السياسي أو النضالي أو الإنساني؟
- الإبداع الحق هو نوع من النضال الإنساني المتواصل. لكن في بعض الأحيان تصبح الكلمات عاجزة خرساء. فحين أرى صور الأطفال العرايا الجوعى في البرد القارس في غزّة تموت الكلمات على الشفاه، وتصبح غاية المُنى أن يعمل المرء بيده لتخفيف المعاناة، وكم تمنّيت لو أتاحت الظروف فرصة التطوع في مؤسسة دولية لدعم ضحايا الحروب؛ كي أشارك في تخفيف معاناة مئات الآلاف من الأطفال والشيوخ والنساء من خلال توفير الاحتياجات الأساسية، وتقديم الدعم النفسي والروحي. لكننا نستطيع مدّ يد العون بأشكال شتّى رغم البعاد. فأيّ إنسان بإمكانه مناصرة الشعب المحتل بالكلمة، وبالتبرّع للجوعى والمشرّدين والجرحى، وبنقد الاحتلال الإجرامي الذي يمارس إبادة جماعية وجرائم حرب ممنهجة كلّ يوم تقريباً.
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
التغيير لا يُنتظَر، بل يُصنَع. العالم الذي نعيش فيه متوحّش، لن يُعطي حقاً لذي حقّ إلّا إذا انتزعه انتزاعاً. كنا نرجو أن يكون العالم أخلاقيّاً، يدافع عن قيم الحرية والعدل والمساواة، لكننا ندرك الآن جيداً أنّ القوة هي القيمة الوحيدة التي يُحسب لها حساب. ولا عزاء للضعفاء. مع ذلك، هناك حقيقة ساطعة فرضتها "طوفان الأقصى" في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي؛ هي أن الضعيف هو فقط من اختار أن يكون ضعيفاً. وأن كلّ فرد وجماعة وأمّة لديها مصادر قوة، تجعلها قوية في مواجهة الآخرين. وأن موازين القوى لا تقاس بالقدرات المادية فحسب، بل بالإيمان العميق بالقضية، والاستثمار الأمثل لكل مورد متاح. التغيّر الوحيد الذي أرجوه أن يدرك كل ضعيف، سواء أكان فرداً أو جماعة أنه يستطيع المقاومة، وأنه يجب أن يقاوم حتى يعتدل الميزان.
دعمك القضية الفلسطينية يحرّر إرادة العالم العربي كله
■ شخصية إبداعية مقاوِمة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟
الشاعر المقاوم أمل دنقل. فقد ضحَّى أمل حرفيّاً بكل ما يتطلّع إليه البشر العاديون كي يمتلك حريته في مساندة الضعفاء. اختار أن يحيا مهدَّداً فقيراً محاصراً، كي يحفظ حريته في قول ما يؤمن به ويدافع عنه. أودّ أن أقول لأمل: نحن مدينون لك، فقد علّمتنا أن الإبداع المقاوم الحق لن يموت.
■ كلمة تقولها للناس في غزّة؟
يقطع الاحتلال عنكم الكهرباء، فتضيئون العالَم بأسره بنضالكم. يحاصركم الاحتلال، فتحرّروننا بصمودكم. يحوّل الاحتلال أرضكم إلى مكان غير قابل للعيش، فتعلموننا درساً في التشبّث بالوطن ولو كان حطاماً. سيُلهِم نضالكم العالم لأجيال قادمة، وسيظل كل محب للحرية فخوراً بنضالكم لزمن طويل.
■ كلمة تقولها للإنسان العربي في كلّ مكان؟
فلسطين هي الاختبار الأكبر لعروبتنا وإنسانيتنا معاً. الروابط التي تجمعنا تفرض علينا التعامل مع نضال الفلسطينيين من أجل التحرّر على أنه نضال عروبي. فالاستعمار الاستيطاني الذي يسعى الفلسطينيون إلى الخلاص منه، هو ذراع الهيمنة الغربية، التي تحكِم قبضتها على عنق العالم العربي، وتخنقه. إن دعمك للقضية الفلسطينية لا يُسهم في تحرير فلسطين وحدها، بل يحرّر إرادة العالم العربي نفسه.
■ حين سُئلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي إشي".. ماذا تقول لدارين ولأطفال فلسطين؟
أقول لهم، اغفروا لنا تقصيرنا، وسامحونا على قلّة حيلتنا.
بطاقة
باحث وأكاديمي مصري، يعمل أستاذاً للبلاغة وتحليل الخطاب في جامعة قطر. درَس في جامعتَي القاهرة ولانكستر البريطانية. من مؤلّفاته: "لماذا يصفّق المصريون؟ بلاغة التلاعب بالجماهير في السياسة والفن" (2009)، و"استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي" (2012)، و"بلاغة الحرية: معارك الخطاب السياسي في زمن الثورة" (2013)، و"تحليل الخطاب السياسي: البلاغة، السلطة، المقاومة" (2020).