مع غزّة: أنس العيلة

07 ابريل 2024
أنس العيلة
+ الخط -
اظهر الملخص
- الشاعر الفلسطيني المقيم في باريس يشارك تجربته العاطفية خلال العدوان على غزة، معبرًا عن مشاعر الغضب والخيبة وفقدان الثقة بالإنسانية بسبب الصمت الدولي والعربي.
- يناقش الدور المحدود للإبداع في مواجهة العدوان، معترفًا بشعوره بالعجز والتساؤل عن فعالية الكتابة والإبداع في ظل الظروف الحالية، معبرًا عن رغبته في اختيار مجال آخر للتأثير.
- يختتم بالتعبير عن أمله في تغيير البنية السياسية العالمية ودعوة الشعوب العربية للوعي بما يجري في غزة كخطوة نحو التغيير، مؤكدًا أن المستقبل ينتمي لأطفال فلسطين.

تقف هذه الزاوية مع مبدع عربيّ، في أيام العدوان على غزّة وكيف أثّر على انتاجه وحياته اليوميّة، وبعض ما يودّ مشاركته مع القراء. "علينا أن نغار من شعوب العالَم التي خرجت إلى الشوارع نصرة لفلسطين"، يقول الشاعر الفلسطيني المقيم في باريس لـ"العربي الجديد".


■ ما الهاجس الذي يشغلك هذه الأيام في ظلّ ما يجري من عدوان إبادة على غزّة ؟

- ليس هاجساً ما يشغلني هذه الأيام بل أكثر من ذلك، وأكثر من مجرّد إحساس، إنّه حالة نفسيّة كاملة، تتضارب فيها مشاعر الغضب والخيبة والاشمئزاز والحزن والعجز والقرف. وأخطرُ ما في هذه الحالة النفسيّة هو فقدان الثقّة بالإنسانيّة، وانهيار لكلّ قيمها، تغدو الحضارة كذبة، ومشاعر التضامن والتعاضد مجرّد شعارات تُرفع في الشوارع، حتى بعد قرون طويلة من التعلّم والتمدّن والتحضّر. وأرى إلى أيّ حدّ يُمكن أن يصل التواطؤ العربيّ الرسميّ، وإلى أيّ مدى يُمكن أن يصل العجز الشعبيّ العربيّ: ما معنى أن تكون جزءاً من أمّة عددها نصف مليار نسمة، وتتعرّض للإبادة دون حراك حقيقي من أحد؟ وأن تكون على بُعد مئات الأمتار من حدود أقوى دولة عربيّة وتموت من الجوع؟ وأن تكون جزءاً من ديانة عدد أفرادها مليارا شخص ويُقتل أطفالك على كلّ شاشات العالَم!


■ كيف أثّر العدوان على حياتكَ اليوميّة والإبداعيّة؟

- ربّما حياتي اليوميّة وبرنامجي اليوميّ لم يتغيّر، لكن علاقتي به تغيّرت! فأصبح يُؤنّبني ضميري أنني أستطيع النوم تحت سقف آمن، وأنني أجد طعامي أمامي، وحين أتناول الخبز أو أشتريه أتذكّر كلّ ما سمعته من أطفال غزّة المُشتاقين للخبز الأبيض. وكوني أعيش في فرنسا حاليّاً، أُدرك أنني أُقيم في بلد يُساند إبادة شعبي! هذه حقيقة قاسية لا مهرب منها: أدفع ضرائب في بلد يُوفّر الحماية السياسيّة والعسكريّة لقاتلِي أطفال شعبي، لذا لم أعُد أرى المحيط الذي أعيش فيه بنفس الطريقة. 

أما على المستوى الإبداعيّ، فإنني مثل الكثيرين فقدتُ القدرة على الكتابة، وأتابع ما يُجري بشكل مستمرّ، يبدأ صباحي بصُور غزّة وينتهي نهاري بها، صور وقصص "تهدّ الحِيْل"، تدفعني أحياناً للرغبة في الصراخ داخل المترو بين جموع الناس أو في الشارع، تتكوّر الصرخة في حنجرتي، وتكاد أن تخرج! صُور وقصص تدخل حيّز الأساطير لشدّة الألم الذي تحمله، لا أكاد ألتقط نَفَسي أمام هول الأحداث والصور المتلاحقة. وعدم القدرة على الكتابة يأتي من توالي الصدمات وعدم استيعاب ما يجري من جرائم، لذا من الصعب تحويلها إلى مادّة للكتابة. كأنّ هذه الجرائم لا تصلح أن تتحوّل إلى نصوص وقصائد. فأحياناً، أقول لنفسي ما قيمة الكتابة وما جدواها في عالم تُقصف فيه المستشفيات؟ وتُقصف فيه الأجنّة والأطفال في الحاضنات البلاستيكيّة؟ 

ما قيمة الكتابة وجدواها في عالم تُقصف فيه المستشفيات؟


■ إلى أيّ درجة تشعر أنّ العمل الإبداعيّ ممكن وفعّال في مواجهة حرب الإبادة التي يقوم بها النظام الصهيوني في فلسطين اليوم ؟

- صحيحٌ أنّ الكتابة هي الشيء الوحيد الذي يُمكن لنا من خلاله أن نُقدّم شيئاً الآن، وهي ضروريّة، وهذه القصص المُرعبة يجب ألّا تُنسى أو تُهْدَر. لكنّ الكتابة لا جدوى لها ولا فاعليّة لها على أرض المعركة، ولا تُؤخّر أو تُقدّم شيئاً ممّا يجري على الأرض، فما جدوى القصائد أمام أطفال يموتون من الجوع! نشعر بضآلة عملنا، بهامشيّته، وتبدو الكتابة كأنّها ترَفٌ، وزائدة عن الحاجة، نشعر بمحدوديّة تأثيرنا، بهامشيّة دورنا، نحن الذين اعتقدنا أنّ الثقافة تقود المجتمعات للتحرّر والتقدّم.
فقدان الثقة بالإنسانيّة يجعل الكتابة تفقد معناها كذلك. فكيف أثق بها، وشعبي يُحرق يوميّاً منذ أكثر من أربعة أشهر على كلّ شاشات العالَم دون أن يقوى أحد على إيقاف ذلك. والكتابة تفشل أيضاً، لأنّنا نتحرّج من الحديث عن معاناتنا الشخصيّة وكوابيسنا، كونها لا تُقارن بالجحيم الذي يعيشه الناس في غزّة. فلا شرعيّة لآلامنا، ولا شرعيّة للبوح بها الآن.  


■ لو قيّض لك البدء من جديد، هل ستختار المجال الإبداعيّ أو مجالا آخر، كالعمل السياسيّ أو النضاليّ أو الإنسانيّ ؟

- لأوّل مرّة أتمنّى لو كنتُ سياسيّاً أو عسكريّاً أو أعمل في المجال الإنسانيّ، ربّما كان يُمكن لي فعلُ شيء في هذه المقتلة أكثر جدوى من الكتابة. 


■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟

- لا أَمَل في تغيّر البشر، فسيبقون كما هُم منذ فجر التاريخ وإلى الأبد، وستكون أمنية غير واقعيّة وطوباويّة، لكن آمل أن تتغيّر البُنية السياسيّة العالميّة، وآليّة عمل المؤسسات الدوليّة وعلى رأسها "مجلس الأمن"، بُنية فاسدة تُنتج قوانين ظالمة بحقّ قسم كبير من هذا العالَم، وبالذات نحن، أتمنّى أن تنهار هذه البُنية عن بكرة أبيها. وأتمنّى من الشعوب العربيّة أن تغار من الشعوب الأجنبيّة وتخرج إلى الشوارع لتضغط على حكّامها الفاسدين، الذين انقسموا بين متواطئ ومُساند للاحتلال وصامت. أتمنّى لو يغاروا من جنوب أفريقيا ودول أميركيا اللاتينيّة التي جرّت "إسرائيل" إلى المحاكم، وهذا أضعف الإيمان. لم يحدث في تاريخ الحروب على فلسطين، أن كانت المفارقة جارحة إلى هذا الحدّ! 

وعيُ ما يجري في غزّة ضرورة تُؤسّس لتغيير عالمي قادم 

■ شخصيّة ابداعيّة مقاومة من الماضي تودّ لقاءها، وماذا ستقول لها؟

- في سياق كالذي نعيشه إذا كانت هناك شخصيّة أُفكّر بها الآن، فهي بالطبع صلاح الدين الأيوبي. قد يبدو حلماً طفوليّاً، لكن لا أحد يسلم من أمنية كهذه في وقت كهذا.  


■ كلمة تقولها للناس في غزّة ؟

- بالعكس، عليّ الإصغاء لهم، ولمعاناتهم، لقصصهم، لآلامهم، لآهاتهم، لأحلامهم وكوابيسهم... لدمائهم وأوقاتهم المهدورة. غزّة التي كشفت عورة العالم، نظامه الفاسد، وماهيّة الكيان الإسرائيليّ، كمشروع استعماريّ يسعى لمحو كلّ ما هو فلسطينيّ، وفتّحت عقولاً كثيرة في كلّ مكان تقريباً على حقيقة واقعنا. هذا وعي ضروريّ سيؤسّس لتغيير قادم عاجلاً أم آجلاً. 


■ كلمة تقولها للإنسان العربيّ في كلّ مكان ؟

- لا أحد مُعفى من المسؤوليّة أمام ما يجري. والهروب من المسؤوليّة، ومن مواجهة الواقع، لن تجعل المستقبل أكثر أماناً، بل بالعكس تماماً!


■ حين سئُلت الطفلة الجريحة دارين البيّاع التي فقدت معظم أفراد عائلتها في العدوان، ماذا تريدين من العالم، أجابت "رسالتي للناس إذا بيحبّوا دارين يكتبوا لي رسالة أو أي شيء" ... ماذا تقول لدارين ولاطفال فلسطين ؟

- ما أودّ أن أقوله لدارين، إنّ المستقبل لها، ولنا جميعاً نحن الفلسطينيّين. فما مستقبل "دولة" ترتكب أعمال كهذه كالتي نراها على الشاشات دون انقطاع؟ لنحتكم للمنطق قليلاً. "دولة" تقصف المستشفيات والمدارس وحتى القبور بهذا الشكل السافر والمتوحّش هل لها مستقبل في هذا العالم؟ سألت هذا السؤال لأصدقاء فرنسيين ويهود حولي في فرنسا. وكانت الإجابة تتكرّر: لا مستقبل لها! أما أطفال فلسطين، فالمستقبل لهم.



بطاقة

شاعر فلسطيني من مواليد قلقيليّة عام 1975، مُقيم في باريس. حصل على إجازة في اللغة العربية ودبلوم صحافة من "جامعة بيرزيت"، قبل أن يُكمل دراساته العُليا في فرنسا. يكتب مقالات في الصحف الأدبيّة وبحوثاً أكاديميّة باللغتين العربيّة والفرنسيّة. حازت مجموعته الشعريّة "مع فارق بسيط"، التي صدرت بالفرنسيّة بترجمة الشاعر المغربيّ محمد العمرواي، "جائزة Les journées Brautigan" عام 2012. عمل مع موسيقيين فلسطينيّين وعرب، منهم الموسيقي محمد نجم، ولحن العديد من قصائده. كما عمل مديراً فنيّاً لمهرجان شعريّ بالتّعاون بين "المركز الثقافيّ الفلسطينيّ" وبين "معهد العالم العربيّ" و"بيت الشعر الفرنسيّ" في باريس. يعمل حالياً مُحاضِراً جامعيّاً، ومسؤولاً عن قسم اللغات الساميّة في مكتبة "جامعة باريس الثامنة". صدر له في الشعر: "مع فارق بسيط" (2006)، و"عناقات متأخّرة" (2016)، و"مهرولاً على ساق واحدة" (2023)، بتقديم من الشاعر الفرنسي الرّاحل برنار نويل.
 

مع غزة
التحديثات الحية
المساهمون
The website encountered an unexpected error. Please try again later.