مع إصدار القضاء العراقي الأحد الماضي مذكرات اعتقال بحقّ ثلاث شخصيات شاركت في مؤتمر"السلام والاسترداد" الذي عُقد في مدينة أربيل منذ أيام، تحضر أسئلة جديّة حول حوادث مماثلة وقعت في السنوات الأخيرة، قام بها مسؤولون أو أعضاء في أحزاب لها ممثلون في البرلمان ومجلس الوزراء العراقيين.
إلى جانب كلّ من النائب السابق مثال الألوسي أحد أبرز دعاة التطبيع مع الكيان الصهيوني في البلاد، ووسام الحردان قائد تنظيم "الصحوات" المدعوم أميركياً، تواجه الباحثة في وزارة الثقافة سحر كريم الطائي قرار الاعتقال ذاته، بعد تلاوتها البيان الختامي للمؤتمر الذي شاركت فيه ثلاثمئة شخصية عراقية، ودعا صراحة إلى انضمام بغداد لـ"اتفاقيات أبراهام" التي وقّعت عليها أبوظبي والمنامة والخرطوم والرباط.
الطائي أحيلت إلى لجنة شكّلتها الوزارة للتحقيق في شأن مشاركتها دون معرفة مصير التحقيقات في بلد تتجاذبه إرادات سياسية عدّة تخضع لقوى خارجية، لكن الموظفة المذكورة دافعت عن موقفها عبر تصريحات لعدد من وسائل الإعلام قالت فيها إنه لا يمكن لأي قوة، سواء كانت محلية أم خارجية، أن تمنعها من الانخراط في أنشطة تطبيعية، كما جادلت في وجود نصوص دستورية تجرّم ذلك، خلافاً لما يقوله مناوئو التطبيع.
لا يمكن مقاربة التطبيع دون العودة إلى لحظة الاحتلال الأميركي
لا تزال المؤسسة الثقافية الرسمية بمنأى عن الشبهة حتى اليوم، ولطالما سجّلت مواقفها في أكثر من مناسبة تعبيراً عن رفض إقامتها علاقات مع الاحتلال الإسرائيلي واستنكارها كلّ من يدعو إليها، إلا أن التشكيك بقدرتها على تجريم موظفيها تبقى مسألة تحيط بها الشكوك بالاستناد إلى حوادث سابقة، إذ إن المحكمة الاتحادية العليا أبطلت قرار مجلس النواب بفصل مثال الألوسي إثر زيارته تل أبيب عام 2006.
لا يمكن مقاربة موضوع التطبيع في العراق من غير الرجوع إلى لحظة الاحتلال الأميركي عام 2003، وبعيداً عن الاتهامات التي طاولت زعماء في المعارضة العراقية عن لقائهم بشخصيات صهيونية في الولايات المتحدة خلال التسعينيات، فإن الخطوة الأولى التي قام بها هؤلاء بعد وصولهم إلى سدّة الحكم تمثّلت باتخاذ قرار سنة 2004 يقضي بحذف عبارة "يسمح بالسفر الى جميع دول العالم عدا إسرائيل" التي ظلّت على جواز السفر العراقي منذ الاستقلال.
وفي السياق ذاته، تمّ إلغاء "مركز الدراسات الفلسطينية" في "جامعة بغداد" والذي أنشئ عام 1967، وتخصّص في البحث في واقع الكيان المحتلّ عبر مجموعة أبحاث ومؤلّفات، بموازاة انحسار اهتمام الحكومة الجديدة بالصراع العربي الإسرائيلي، وسط صعود دعوات عنصرية ضد اللاجئين الفلسطينيين قادت إلى أعمال قتل وتدمير لممتلكاتهم بذريعة تعاونهم مع النظام السابق، وأفضت إلى تهجير معظمهم إلى خارج العراق.
لا يبدو المشهد سوداوياً في المطلق، حيث خرجت العديد من البيانات الحزبية المندّدة لأيّ فعل لا أخلاقي يساوم على عروبة فلسطين ودماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عنها، وفي مقدّمتهم مئات العراقيين الذين شاركوا في جميع الحروب ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، إلى جانب بيانات للعشائر تؤكد على أن المشاركين في المؤتمر لا يمثلون عشائرهم، وأخرى للمرجعيات الدينية في النجف.
كما أن الضغوط الشعبية فرضت على حكومة كردستان إصدار بيان يؤكد انعقاد المؤتمر "دون علم وموافقة ومشاركة حكومة الإقليم"، وأنها تلتزم بموقف الحكومة الاتحادية في بغداد الذي يرفض بالقطع جميع أشكال التطبيع، وهو موقف متقدّم قياساً بمواقفها السابقة، لكن يبقى سؤال أساسي حول خفوت صوت المثقف العراقي الذي قاوم العدو سواء في دوره كضمير أخلاقي أو في مساهماته المعرفية على مدار عقود ماضية.