مصر أيام المعتضد العبّاسي (1- 2): الفسطاط ومعالم الإسكندرية العمرانية قبل خرابها

27 اغسطس 2022
"منارة الإسكندرية" في تصوير لـ نيكولاس شيل، من القرن السابع عشر (Getty)
+ الخط -

ينطوي كتاب "الأعلاق النفيسة" للجغرافي الفارسي ابن رُستة الأصفهاني (رحلَ نحو 300هـ/ 912م)، على الكثير من المعلومات النادرة حول مصر وأقاليمها، ولكنّها متوزّعة على أكثر من قسم في الكتاب. وثمّة إشارات كثيرة من داخل النّص إلى أنّ كلامه المنشور منقولٌ عن شخص لا يُصرّح باسمه في متن النص، ولكنّنا نقرأ في مقدّمة الكِتاب أنّ اسمه أحمد بن الطيب، صاحب كتاب "أركان الفلسفة"، وهذه الإشارة الخجولة تُحيل إلى أن جميع الموادّ المنشورة في هذا الكتاب مقتبسةٌ نصاً أو معنى عن أحمد بن الطيب المذكور.

وأحمد بن الطيب المقصود هو أبو العباس أحمد بن محمد بن مروان السرخسي (نسبة إلى مدينة سرخس)، وقد رحل في عام 286هـ/ 899م، وهو من تلاميذ يعقوب ابن إسحق الكندي، وكان كاتباً موسوعياً له عشرات الكتب المفقودة التي لا نعرف منها إلا عناوينها، ومنها كتاب "المسالك والممالك" الذي يرجّح أن كتاب ابن رستة مقتبس في معظمه عنه.

تولّى أحمد بن الطيب في أيّام الخليفة المعتضد الحِسبة في بغداد، وكان مُعلّماً للمعتضد ثم نديماً له. وقد قتله المعتضد بسبب إفشائه أحد الأسرار التي ائتمنه عليها. وملخّص القصة أن الخليفة أفشى له سرّاً يتعلق بالوزير الشهير القاسم بن عبيد الله وبدر غلام المعتضد، فأفشاه السرخسي وأذاعه، وذلك بحِيلة من القاسم بن عبد الله، فسلّمه المعتضد إليهما فصادرا أمواله وسجناه، ودبّر الوزير القاسم بن عبد الله حيلة لقتله داخل السجن، في قصّة مشهورة تعبر عن دهاء وفساد ذلك الوزير.

وممّا يؤسَف له أن هذا الكتاب طُبع عدّة طبعات مطابقة للمخطوط، منها طبعة المستشرق كولسون في بطرسبرج، سنة 1869 وترجمَه إلى الروسية. وطبعة بريل في لايدن سنة 1892، التي أشرف عليها دي خويه في سلسلة المكتبة الجغرافية العربية، ولكنّها طبعات غير محقّقة وغير مدروسة، ففي هذا الكتاب الثمين الكثير من الأسرار والحقائق التي لم تُحلَّ مغاليقها، ومنها أنه هو على الأرجح مختصر لكتاب "المسالك والممالك" المفقود لأحمد بن الطيب السرخسي، وهو من أوائل الكتب الجغرافية العربية. 

الصورة
الأعلاق النفيسة - القسم الثقافي

مصر وتأسيس الفسطاط

يبدأ الكتاب بتعداد محطّات الطريق الذي يصلُ بلاد الشام بمصر، فيحدّد مدينة العريش كأوّل المسالح في مصر، والمسلحَة هي المخفر العسكري، أو الحصن الذي ينزل فيه الجنود، حيث يقول: "العريش هي أوّل مسالح مصر وأعمالها، ويسكن العريش قومٌ من جذام وغيرهم، وهي قرية على ساحل البحر، ومن العريش إلى قرية يقال لها البقّارة، ومنها إلى قرية يقال لها الورّادة في جبال من رمال، ثم إلى الفرما، وهي أوّل مدن مصر، وبها أخلاطٌ من الناس، وبينها وبين البحر الأخضر ثلاثة أميال، ومن الفرما إلى قرية يقال لها جرجير مرحلة، ومنها إلى قرية يقال لها فاقوس مرحلة، ومنها إلى قرية يقال لها غيفة ثم الفسطاط".

ويوضّح كيف تأسّست مدينة الفسطاط التي كانت تُعرَف أيضاً باسم "مدينة مصر"، فيقول: "كانت الفسطاط تُعرف بـ'باب اليون'، وهو الموضع المعروف بالقصر، فلمّا افتتح عمرو بن العاص 'باب اليون' في خلافة عمر بن الخطّاب سنة عشرين اختطّت قبائل العرب حول فسطاط عمرو بن العاص، فسمّيت الفسطاط لهذا، ثم اتّسعوا في البلد، فاختطّوا على النيل واختطّت قبائل العرب في المواضع المنسوبة إلى كلّ قبيلة، وبنى عمرو بن العاص مسجد جامعها ودار إمارتها المعروفة بدار الرّمل‏، وجعل الأسواق محيطة بالمسجد الجامع في الجانب الشرقي من النيل، وجعل لكلّ قبيلة محرساً وعريفاً، وابتنى حصن الجيزة في الجانب الغربي من النيل وجعله مسلحة للمسلمين وأسكنه قوماً، وكتب إلى عمر بن الخطّاب بذلك، فكتب إليه لا تجعل بيني وبين المسلمين ماء".

ويشير ابن رستة في الكتاب إلى أن عمرو بن العاص افتتح أقاليم (أو كور) مصر صلحاً باستثناء الإسكندرية التي ظلّ يحاربها ثلاث سنين إلى أن فتحها عنوة سنة 23 هجرية. وقصة فتح الإسكندرية معروفة جيداً في كتب التاريخ، حيث نقضت المدينة اتفاق الصلح الأول بعد تسلّل الجيش البيزنطي إليها، وقد تمكّن جيش المسلمين بالتعاون مع الأقباط من سكّان المدينة وريفها من القضاء عليه. 


وصف المدينة

وينقل ابن رستة وصف مدينة مصر التي عرفت في ما بعد باسم القاهرة، عن الرحّالة والفيلسوف أحمد بن الطيب السرخسي حيث يقول: "مدينة مصر مدينة عظيمة، وطول المدينة على حافتي النيل نحواً من ثلاثة فراسخ، وفيها قبّتان مشرّفتان من صخر طولهما في السماء قريب من رمية، يُريان من فرسخ وأكثر، وتعرفان بالهرمين... وهذا الموضع خارج من المدينة، وهناك السجن الذى حُبس فيه يوسف، وفيه حمّام فيه تمثال جارية ذُكر أنها من جواري فرعون مُسخت، وأن الماء الذي في ذلك الحمّام قد احتِيل له حتّى يجري في فمها ويخرج من قُبُلها، وإن بيت مال مصر في المسجد الجامع، قدّام المنبر، وهو منفصلٌ من سطوح المسجد، لا يتّصل بشيءٍ منها، وهذا مرفوعٌ بأساطين (أعمدة) من حجارة، وهي شبه قبّة مرتفعة يجلس الناس تحت البيت ويمرّون تحته، وهناك قنطرة من خشب، وإذا أرادوا دخول ذلك البيت جرّوا تلك القناطر بالحِبال حتّى يستقرّ طرفُها على سطح المسجد، فإذا خرجوا ردّوا القنطرة وعليها باب حديد وأقفال، وإذا صلّوا العشاء الآخرة، أُخرج الناس كلّهم من المسجد، ولم يُترك فيه أحد، ثم تُغلق أبواب المسجد، وكذلك محل بيت المال".

الصورة
مسلّة كليوباترا في الإسكندرية، 1804 (Getty)- القسم الثقافي
مسلّة كليوباترا في الإسكندرية، 1804 (Getty)

الجيزة ومقياس النيل

وينتقل رحّالتنا لوصف مدينة الجيزة فيقول: "النيل على طرف مدينة مصر، ومن الجانب الآخر مدينة يقال لها الجيزة، وهناك بساتينهم وضياعهم ومتنزّهاتهم، وقد عُقد على النيل مثل جسر بغداد، فيُعبر عليه إليها، وقد اتّخذت علامات تعرف بها زيادة الماء ونقصانه، ووكّل به جماعة يتعهّدونه ويثبتونه‏، وإذا زاد نظروا إلى بعض تلك العلامات، فوقفوا على مقدار الزيادة لأن الزيادة في الخِراج على حسب الزيادة في الماء، فيصير هؤلاء الموكّلون إلى المسجد الجامع بأيديهم الرياحين، ويقفون على حلقة حلقة، ويرمون بما معهم من الرياحين إليهم وينادون أن الله عزّ وجلّ قد زاد في النيل كذا وكذا، فيستبشر الناس ويكثرون حمد الله والشكر له، وإنه إذا زاد الماء أفاض على أرضيهم، فغرقها حتّى يختلفوا إلى القرى في الزوارق، فإذا نضب ذلك الماء زرعوا أرضيهم، فيبلغ خراجهم ألفي ألف دينار".

ويضيف: "بمصر من الأشجار النخيل، والموز، والجمّيز، وفي ناحية مصر جبل يقال له المقطّم، عليه مقبرتهم، وعلى قُلّته بناء يقال إنه كان مطبخ فرعون، فغيّر ذلك وبني فيه مسجد يجتمع الناس فيه ليالي الجمعات ويدعون الله هناك ويصلّون".


وصف الإسكندرية

وينقل ابن رستة عن الرحالة السرخسي أنه وصحبه ساروا إلى الإسكندريّة على طريق الماء، وركبوا السفن في بطن النيل، وانحدروا أيّاما حتّى أفضوا إلى البرّ، وصاروا إلى مدينة الإسكندريّة. وفي ذلك يقول: "تخرج منها في سفينة منحدراً فتسير مقدار ثلاثين فرسخاً، عن يمينك ويسارك النخيل والبساتين والضياع، حتّى تنتهي إلى سور الإسكندريّة مقدار مئة خطوة مسنّاة من حجارة في البحر، تسير عليها حتّى تنتهى إلى منارة الإسكندريّة".

ويصف المنارة بقوله: "هي المنارة الموصوفة وقد بُنيت على أربع أساطين (أعمدة)، طول المنارة في الهواء ثلاثمئة درجة، في كلّ درجة كوّة يطّلع منها إلى البحر، ويقال إن ارتفاع المنارة في السماء ثلاثمئة ذراع بذراع الملك، يكون ذلك بذراع اليد أربع مئة وخمسين ذراعاً".

ويتابع: "تدخل الباب الشرقي من الإسكندريّة، فهناك قبّة خضراء عليها ستّة عشر عموداً من رخام، وهي وسط المدينة، بناها الإسكندر، يمنة من هذه القبّة البحر، ويسرة منها أشجار الجمّيز والكروم، وقبالتها سوق يمنة منها، فتسير مقدار فرسخ في سوق مبنيّة من رخام، وأرضها رخام وحيطانها، وقلّ ما يتّسخ فيها الثياب..".


القبة الخضراء

ويقول إن في القبة الخضراء "تماثيل ونقوشاً قد تهدّم بعضها، وبقي بعض يسمّى ذلك الموضع باب فرعون، وأنه رأى بقرب هذه الأساطين (الأعمدة) شبه منارتين مصمتتين مربّعتين، وأنهما كانتا وضعتا جميعاً على مثال عقرب من صُفْر أو نحاس، عليها كتابة غير مفهومة، وذكر أنّها حِكَم، وأنّه تناهى إليه الخبر بعد ذلك أنهم أوقدوا تحت ذلك‏ المثال المعمول على صورة العقرب حتّى احترق وذاب، وسقطت المنارتان، وأنّ بها رباطات على الساحل يضرب ماء البحر حيطانها تسمّى المحارس.

ويضيف "إن الإسكندرية مدينة نزهة، كثيرة الخير، على شاطئ بحر الروم، وهو أقصى حدود الإسلام، وإنه رأى موضعاً يعرف بسواري سليمان، وهناك قصره وموضعه، وقد تهدّمت تلك البيوت والحيطان، وبقيت تلك السواري قائمة لا سقوف عليها، وبقي الباب الذي كان يدخل منه، وهو باب بمصراعين قد نُقرا من صخر، وكذلك العضادتان والأسكفة، وهو في الملوسة والصفاء مثل المرآة، وأنّه نظر في ذلك الباب فرأى الغيم الذي في الهواء، ورأى خُضرة البحر فيه، وعليه نقط من كلّ صبغ، وأنه رأى أسطوانة من تلك الأساطين غلظها مقدار ما يعانقه رجلان، وهي تميل إلى ناحية، ثم تستوي ثم تميل من غير أن يمسّها أحد، وأنه أقام عليها ساعةً ينظر إليها، وأخذ خشبة وجلس تحت الأسطوانة، فلمّا مالت وضع الخشبة تحتها فلم يمكنه إخراجها، وإنه تأمّل سائر تلك الأساطين فلم ير شيئاً منها يتحرّك إلّا تلك الواحدة".


عجائب مصر 

ويخصّص ابن رستة قسماً للحديث عن عجائب مصر ويبدأ بالهرمين حيث يقول: "من عجائب البلدان الهرمان‏ بمصر، سُمكُ كلّ واحد منهما أربع مئة ذراع، مكتوب عليهما بالمُسند (يقصد الهيروغليفية) كلُّ سحر وكلّ عجب من الطبّ، ومكتوب عليهما أني بنيتهما، فمن ادّعى قوّة في ملكه فليهدمهما، فإن الهدم أيسر من البناء، فقدّروا ذلك فإذا خراج الدنيا لا يقوم بهدمهما".

ويضيف: "بعين شمس من أرض مصر أسطوانتان (عمودان حجريان) من بقايا أساطين كانت هناك، على رأس كلّ أُسطوانة طوق من نحاس يقطر من إحداهما ماء من تحت الطُّوَق إلى نصف الأسطوانة، لا يجاوزه ولا ينقطع قطره ليلاً ولا نهاراً، فموضعه من الأسطوانة أخضر رطب لا يصل الماء إلى الأرض".

ويشير إلى وجود سمكة في نهر النيل "يقال لها الرعّادة، من مسَّها وجد خدرَاً في كفّه ويده وذراعه ما دامت حيّة، فإن صبر ازداد ذلك حتّى ترتعد يده وعضده، ويضطرب، ويخفق قلبه، ولا يقدر أن يمسكها بتّة، وقد صحّ ذلك بخبر من شاهدها، ويُقال إنّها إذا وقعت في شبكة الصيّاد خدرت يدُه وهي في الشبكة، وإن أخذ قضيبَه‏ فوضع أحد طرفيها على هذه الشبكة وأمسك الطرف الآخر بيده، خدرت يده".

ويقول: "في النيل أيضا حيوان يقال له التمساح، وهو الورل‏، إلّا أنه يعظم في الماء جدّاً". وينقل عن السرخسي قوله: "أخبرني من شاهدها أنه قد يكون منها ما طوله ثلاث أذرع إلى ستّين ذراعاً، وهي تختطف وتثقف‏، وتفترس كلّ من دنا إلى الشطّ، وتأكل الناس‏ خاصّة وسائر الحيوان، وهي كثيرة مفرطة الكثرة في بلد من بلدان مصر يقال له الأشمون، ولا يقرب أحد من الشطّ راكبة ولا ماشية، ولا سبع ولا غير ذلك إلّا اختطفه دائباً يرصد ذلك".

الصورة
أهرامات الجيزة، من مجموعة لويس هاغي، 1846 (Getty) - القسم الثقافي
أهرامات الجيزة، من مجموعة لويس هاغي، 1846 (Getty)

زيت لا ينضب

ومن عجائب مصر الأُخرى يقول: "في قرية يقال لها بدرسانة العرا من أرض مصر كنيسة للروم ينزل الناس إليها نيّفاً وعشرين مرقاة، وهناك سرير، تحت السرير رجل ميّت مشدود في نطع، وفوق السرير تور رخام عظيم في جوفه‏ باطية زجاج، في جوف هذه الباطية فتيلة نحاس مجوّفة يجعل القيّم بأمر الكنيسة في جوف هذه الفتيلة النحاسيّة فتيلة كتّان، و يصبّ فيها زيتاً ويشعله، فلا يلبث أن تمتلئ الباطية الزجاج من الزيت حتّى يفيض إلى‏ ذلك التور الرخام، فيأخذ قيّم الكنيسة من ذلك الزيت الذي يسيل دائماً فيسرج به قناديل الكنيسة ويبيع منه ما ينفق على نفسه وعلى قُوّام تلك الكنيسة".  

ومن عجائب مصر أيضاً أنه "في مكان من النيل موضع يجتمع إليه في يوم ما بعينه من السنة السمك الكثير، ويخرج إليه أهل ذلك البلد يصيدونها بأيديهم لا تنفر عنهم بتّة، ولا تنتحي عن الأخذ حتّى أنّ الرجل ليأخذُ حاجته من ألف إلى ما شاء، فإذا غابت الشمس في ذلك اليوم لم يقدر على واحدة من تلك السمكة بتّة إلى ذلك اليوم من السنة المقبلة، ثم تكون الحالة كما كانت".

ويضيف: "بأرض مصر جبل يقال له جبل بوقيران‏ أعلاه بيت في صخرة، وأنه يجتمع في كلّ سنة في يوم بعينه إلى ذلك الجبل طيرٌ كثير، فلا يزال دائباً الواحدة بعد الواحدة تدخل رأسها في ذلك البيت من الجبل حتّى تعلق منها واحدة لا يمكنها إخراج رأسها، فإذا كان ذلك انصرفن جميعاً ثم عدن في ذلك اليوم بعينه من السنة المقبلة".

المساهمون