تنشر "العربي الجديد"، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمد الأسعد كتاب "مدن غير مرئية" لإيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد قبل رحيله المفاجئ في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي.
مدن وموتى (3)
لا توجد مدينة تميل إلى التمتّع بالحياة والهرب من الهمّ أكثر من يوسابيا. ولجعْل القفزة من الحياة إلى الموت أقلّ فظاظةً، أنشأ السكّان نسخة تُماثل مدينتهم تحت الأرض. كلّ الجثث، وقد جُفّفتْ بحيث يبقى الهيكل العظمي مغلّفاً بجلدٍ أصفر، تُحمل إلى الأسفل هناك لتواصل أنشطتها السابقة. ومن بين هذه الأنشطة، تحتلّ لحظاتها الخالية من الهمّ المقام الأول: تُجلَس غالبية الجثث حول موائد عامرة، أو توضَع في مواقف راقصة، أو يجعلونها في موقف مَن يعزف على أبواق صغيرة. إلّا أن كل أعمال يوسابيا الحيّة التجارية وحِرَفها تجري تحت الأرض أيضاً، أو على الأقلّ تلك الأعمال التي يؤدّيها الأحياء عن قناعة أكثر ممّا يؤدّونها عن إثارة: ساعاتيٌّ يضع أذنه الجِّلدية، وسط كلّ ساعات حانوته المتوقّفة، على ساعة جدّ خرساء؛ حلّاقٌ يصوبن بفرشاة جافّة عظْمَ وجنتَيْ ممثّل يتدرّب على دوره دارساً النصّ بمحجرين خاويين؛ فتاة بجمجمة ضاحكة تحلب جثّة عِجلة.
بالطبع، الكثير من الأحياء يريد مصيراً بعد الموت مختلفاً عن نصيبه في الحياة: لهذا تزدحم المقبرة الكبيرة بصيّادي طرائد كبرى، بمغنّيات أوبرا ذوات أصوات معتدلة الارتفاع، بصرّافين، بعازفين على الكمان، بدوقات، بمحظيّات بلاط، بجنرالات؛ كثرة كاثرة لم يسبق أن احتوتها مدينة الأحياء أبداً.
مهمّةُ مرافقة الموتى إلى الأسفل وتنظيمهم في الأماكن المرغوبة، مهمّةٌ موكلةٌ إلى جمعية دينية لإخوةٍ من لابسي القلانس. ليس لأحد آخر من سبيل إلى يوسابيا الموتى، وكلّ ما يُعرف عنها عُرف عن طريقهم.
يقولون إن الجمعية الدينية نفسها قائمة بين الموتى وإنها لا تُخفق أبداً في مدّ يد العون؛ الإخوة ذوو القلانس سيقومون بعد الممات بالعمل نفسه في يوسابيا الأخرى؛ وتمضي إشاعة إلى القول إن بعضهم ميت سلفاً ولكنّه يواصل الصعود والهبوط. ومهما يكن الأمر، نُفوذ هذه الجمعية الدينية في يوسابيا الأحياءِ واسعٌ جداً.
يقولون إنهم في كلّ وقتٍ يهبطون فيه يجدون شيئاً ما تغيّر في يوسابيا السّفلى؛ الموتى يُحدثون ابتكارات في مدينتهم، ليست كثيرة العدد، إلّا أنها ولا ريب ثمرةُ التأمّل الرصين وليست نزوات عابرة. يقولون إنه سنةً بعد سنة، تصبح يوسابيا الموتى غير قابلة للتعرّف عليها. والأحياء، ليَبقوا على صِلةٍ بهم، يريدون أيضاً القيام بكلّ شيء يخبرهم به الإخوة ذوو القلانس عن أشياء الموتى الجديدة. وهكذا تولّعت يوسابيا الأحياء بنسْخِ نُسختها التحت أرضيّة.
مدينة قشور ماضيها تتلاحم متحوّلةً إلى درع لا يمكن إزالته
يقولون إن هذا لم يبدأ بالحدوث في الآن والتوّ: لقد كان الموتى عمليّاً هم مَن بَنوا يوسابيا العُليا على غرار صورة مدينتهم. ويقولون إنه في المدينتين التوأم لم تعد توجد أيّة طريقة لمعرفة مَن هو ميت ومَن هو حيّ.
■ ■ ■
المدن والسماء (2)
متوارَثٌ في بيرشيبا هذا الإيمان: أن هناك بيرشيبا أخرى موجودة، معلّقة في السماوات، حيث تقف متوازنةً أسمى فضائل وعواطف المدينة، وأنه إذا اتخذتْ بيرشيبا الأرضية الأُخرى السماوية نموذجاً لها، فستصبح المدينتان مدينة واحدة.
الصورة التي تنقلها التقاليد الموروثة هي صورة مدينة من الذهب الخالص، ذات بوّابات ماسية وأقفال فضّية، مدينة ـ جوهرة، كلّها مطعّمة ومرصّعة، كأقصى ما يمكن أن تنتجه دراسة مجدّة حين تطبّق على مواد ذات قيمة عُليا. إخلاصاً لهذا الإيمان، يبجّل سكّان بيرشيبا كلّ شيء يوحي لهم بالمدينة السماوية: إنهم يراكمون المعادن النبيلة والأحجار الكريمة، يتخلّون عن كلّ الانغماسات سريعة الزوال، يُنشئون أشكالاً من الهدوء المتوالف.
هؤلاء السكّان يؤمنون أيضاً أنه توجد بيرشيبا أخرى تحت الأرض، الوعاء لكلّ شيء حقير وغير ذي قيمة يحدث لهم، وهمّهم الدائم هو محو كلّ رابطة أو شبَه مع التوأم السفلية من بيرشيبا المرئية. في مكان السقوف يتخيّلون أن المدينة التحتية قلبت صناديق القمامة، بما فيها من قشور أجبان، ورقٍ دهنيّ، سفط أسماك، ومياه غسيل صحون، وسباغيتي غير مأكولة، وضمادات قديمة تتساقط منها. أو حتى إن مادتها الأساسية سوداء قابلة للطَرق وثخينة، مثل القار الذي ينصبّ من المجاري ممدّداً مسلك الأمعاء البشرية، من ثقب أسود إلى ثقب أسود، إلى أن يطرطش فوق أدنى طبقة أرضية، ومن الفقاعات المتراخية المطوّقة تحت، ترتفع مدينة غائطية، طبقة فوق طبقة، بأبراج متلويّة.
في معتقدات بيرشيبا هنالك عنصر من الحقيقة وواحد خطأ. صحيحٌ أن المدينة يرافقها إسقاطان لذاتها، أحدهما سماوي والآخر جهنّمي؛ ولكنّ المواطنين مخطئون بشأن اتّساقهما. فالجحيم الذي يفقس في تراب بيرشيبا التحتيّ الأعمق، هو مدينة صمّمها أكثر المعماريين استبداداً، بُنيت من أثمن المواد في السوق، بتوظيف كلّ أداة وآلية ونظام تُروس، مزيّنة بشرابات وحوافّ وأهداب متدلّية من جميع الأنابيب والرافعات.
بيرشيبا، وهي تركّز على تكديس قيراطات اكتمالها، تأخذ مأخذ الفضيلة ما هو الآن هوسٌ شرِسٌ لملء وعاء نسْغ ذاتها الفارغ؛ المدينة لا تعرف أن لحظات انغماسها السخيّ ليست سوى تلك اللحظات التي تصبح فيها منفصلةً عن ذاتها، حين تتحرّر، تتوسع.
ومع ذلك، هناك عند سمْت بيرشيبا يتوازن بفعل الجاذبية جسمٌ سماويّ يتوهج بكلّ ثروة المدينة، منطوياً على خزين أشياء منبوذة: كوكب يدور مرفرفاً مع قشور بطاطا، مظلّات مكسورة، جوارب عتيقة، أغلفة حلويات، مرصوفاً بتذاكر ترام، قلّامات أظافر، ثآليل مقشوطة، قشور بيض.
هذه هي المدينة السماوية، وفي سماواتها تمرّ طائرةً مذنّباتٌ طويلةُ الذُّيول، متحرّرة لتدور في فضاء الفعل الحرّ والسعيد الوحيد لمواطني بيرشيبا؛ مدينة لا تكون شرهة، وتحسب حساباً، وبخيلة، إلّا حين تتغوّط.
■ ■ ■
مدن مستمرّة (1)
تعيد مدينة ليونيا تجدّيد نفسها يومياً: يستيقظ الناس في كلّ صباح تحت أغطية نضِرة، يغتسلون بقطَع صابون نُزعت أغلفتها للتوّ، يرتدون ملابس مكتملة الجِدّة، يتناولون من أحدث الثلاجات طرازاً عُلَب طعام محفوظ ما تزال غير مفتوحة، يستمعون إلى موسيقى إعلانات آخر دقيقة من مذياع هو الأحدث تقانة.
على أرصفة المُشاة، تنتظر بقايا ليونيا الأمس ــ معبّأة في أكياس لدائنية نظيفة ــ شاحنة القمامة. ليس فقط أنابيب معجون أسنان معتصرة، مصابيحَ إنارة منفجرة، صحفاً يومية، صناديقَ، أغلفة، بل سخّانات أيضاً، دوائر معارف، آلات بيانو، أطقم مآدب خزفية صينية.
لم تعد توجد أيّة طريقة لمعرفة مَن هو ميت ومَن هو حيّ
لا يمكنكَ قياس درجة غِنى ليونيا بكمّيات الأشياء التي تُصنع كل يوم، تُباع، تُشترى، بل بالأشياء التي تُرمى كلّ يوم لإفساح المجال للجديد. وهكذا تبدأ بالتساؤل عمّا إذا كان شغف ليونيا الحقيقي هو فعلاً، كما يقولون، التمتّع بالجديد وبأشياء مختلفة، وليس، بدلاً من ذلك، متعة تطهير نفسها من تلوّثها، إطراحه، نبذه. الواقع أن كنّاسي الشوارع مرحَّبٌ بهم مثل ما يُرَحَّب بملائكة، ويحيط بمهمّتهم في نقل بقايا وجود الأمس صمتٌ مهيب، مثل طقس يحثّ على تكريس الذات، ربما لا لشيء إلّا لأنّ الأشياء ما أن تُنبذ، لا يعود أحدٌ راغباً بالتفكير فيها أبعد من ذلك.
لا أحد يتساءل إلى أين يحملون حمولتهم من النفايات كلّ يوم. خارج المدينة، لا ريب؛ ولكنّ المدينة تتوسّع في كل سنة، وعلى كنّاسي الشوارع أن يتقهقروا أبعد فأبعد. يتزايد حجم الأشياء المتدفّقة، يتصاعد ارتفاع الأكداس، تُصبح متراصفةً طبقةً فوق طبقة، تمتدّ على محيط أوسع.
بالإضافة إلى هذا، كلّما تفوّقت موهبة ليونيا في صنع موادّ جديدة، كلّما تحسّنت نوعية القمامة، قاومت الزمن، العواملَ الجوّية، التخمُّر، الاحتراق. إنّ قلعةً من المخلّفات غير القابلة للخراب تحيط بليونيا وتُهيمن عليها من كلّ جوانبها مثل سلسلة جبلية.
هذه هي النتيجة: كلّما رمتْ ليونيا مزيداً من السِّلَع، كلّما راكمت مزيداً منها؛ قشور ماضيها تتلاحم متحوّلةً إلى درع لا يمكن إزالته. وفيما تتجدّد المدينة كلّ يوم، تحتفظ بذاتها كلّها في شكلها النهائي الوحيد: تتكدس نفايات الأمس فوق نفايات يوم ما قبل أمس ونفايات كلّ أيامها وسنواتها وعقودها.
قمامة ليونيا كان يمكن أن تغزو العالم شيئاً فشيئاً لو لم يكن كنّاسو شوارع المدن الأخرى، ما وراء القمّة الأخيرة لكومة قمامتها التي لا حدود لها، يضغطون، ويدفعون أيضاً جبالاً من النفايات أمامهم. ربّما العالم كلّه، ما وراء حدود ليونيا، تغطّيه فوهات حفر قمامة في حالة ثوران دائم تطوّق كلّ واحدة منها عاصمة. الحدود بين المدن المتعادية والمغترب بعضها عن بعض متاريسُ ملوّثة حيث يدعم حطام كلّ منها الآخر، يتراكَب معه، يمتزج به.
كلّما تعاظم ارتفاعها، كلّما تضخّم أكثرَ خطرُ انهيار أرضيّ: لو تدحرجت علبةُ قصديرية، إطار سيّارة قديم، قارورة خمر لم تتحلّل، نحو ليونيا، فهي كفيلة بأن تسحب معها كتلة ضخمة منهارة من فردات أحذية، تقاويم سنوات خلت، أزهاراً ذابلة، غامرةً المدينة بماضيها هي، ذاك الذي حاولت عبثاً نبذَه، ممتزجاً بماضي المدن المجاورة، النظيف أخيراً. سيسويّ طوفانٌ سلسلةَ الجبل القذرة، ماحياً كلّ أثر للعاصمة التي ترتدي دائماً ثياباً جديدة. الجميع في المدن المجاورة مستعدٌّ، منتظرٌ مع الجرّافات لتسوية التضاريس، للاندفاع في المنطقة الجديدة، للتوسّع، ودفْع كنّاسي الشوارع الجُدد إلى مدىً أبعد أيضاً.
* ترجمة: محمد الأسعد