تنشر "العربي الجديد"، على حلقات أسبوعية، ترجمة الشاعر والروائي والناقد الفلسطيني محمّد الأسعد لكتاب "مدن غير مرئية" لإيتالو كالفينو. يعدّ العمل من آخر ما ترجمه الأسعد، وقد حال رحيله المفاجئ، في أيلول/ سبتمبر الماضي، دون نشره في كتاب حتى الآن.
مدن وذاكرة (5)
في مورليا، المسافرُ مدعوٌّ إلى زيارة المدينة، وفي الوقت نفسه، إلى فحص بعض بطاقات البريد القديمة التي تُظهرها كما اعتادت أن تكون عليه: الساحة نفسها مع دجاجة في مكان محطّة الحافلات، منصّة فرقة عازفين في مكان المعبر الفوقي، سيّدتان شابّتان بمظلّتين شمسيتين خفيفتين بيضاوين في مكان مصنع الذخائر.
إذا لم يرغب المسافر في تخييب أمل الأهالي، يجب عليه امتداح مدينة البطاقة البريدية وتفضيلها على المدينة الراهنة، مع أن عليه أن يحرص على احتواء أسَفه على ما تغيّر ضمن حدود معيّنة: معترفاً بأن أبّهة ورخاء مورليا العاصمة، مقارنة بالقديمة، مورليا الريفية، لا يمكن أن يعوّضا رشاقةً معيّنة مفقودة، ولكن التي لا يمكن تقديرها الآن إلّا في بطاقات البريد القديمة. في حين أن المرء من قبل، وحين كانت مورليا الريفية تلك أمام ناظريه، لم يشاهد شيئاً من الرشاقة على الإطلاق، بل وقد يراها اليوم أقلّ، لو ظلّت مورليا بلا تغيير. وفي كلّ الأحوال، تمتلك العاصمة جاذبيةً مُضافة بوساطة ما أصبحت عليه، بحيث يمكن للمرء أن ينظر الى الوراء بحنينٍ إلى ما كانت عليه.
حذارِ أن تقول لهم إنّ مدناً مختلفة تتوالى واحدة بعد أخرى أحياناً فوق الموقع نفسه، وتحت الاسم نفسه، وتُولَد وتموت من دون أن تعرف إحداها الأخرى، من دون تواصلٍ بينها. أحياناً حتى أسماء الأهالي تظلّ نفسها، ونبرات أصواتهم، وسِمات الوجوه أيضاً؛ ولكنّ الأرباب الذين يعيشون تحت أسماء وعلى أمكنة، يغادرون من دون كلمة ويستوطن أماكنهم غرباء. من العبث السؤال عمّا إذا كان الجدُد أفضل أو أسوأ من القدماء، طالما ليست هناك صِلة بينهم، تماماً مثل ما أن البطاقات البريدية القديمة لا تصوّر مورليا كما كانت، بل تصوّر مدينة مختلفة، دُعيت مصادفة مورليا، مثل هذه القائمة الآن.
مدن ورغبة (4)
في مركز فيدورا، تلك العاصمة ذات الحجارة الرمادية، ينتصب مبنىً معدنيّ وكرة بلّورية في كلّ غرفةٍ من غرفهِ. وبالنظر في قلب كلّ كرة، تشاهِد مدينةً زرقاء، نموذجاً لفيدورا مختلفة. هذه هي الأشكال التي كان يمكن أن تتّخذها المدينة لو لم تُصبح، لسببٍ أو لآخر، ما نراها عليه اليوم. في كلّ عصرٍ تخيّل أحدٌ ما، ناظراً إلى فيدورا كما كانت عليه آنذاك، طريقةً لجعلها المدينة المثالية، ولكن خلال إنشائه لنموذجه المصغّر، لا تعود فيدورا بعد الآن هي فيدورا كما كانت من قبل، وما كان حتى الأمس مستقبلاً ممكناً لا يصبح إلّا دمية في كرة زجاجية.
المبنى ذو الكرات هو الآن متحف فيدورا: يزوره كلّ ساكن من سكّان المدينة، يختار المدينة التي تتوافق مع رغباته، يتأمّلها، متخيّلاً انعكاس صورته في بركة قنديل البحر التي كانت ستجمع مياه القناة (لو لم يتمّ تجفيفها)، المشهد من المقصورة المظّللة على امتداد الشارع المخصّص للفِيَلة (طُردت من المدينة الآن)، متعة الانزلاق هبوطاً على المئذنة اللولبية الملتوية (تلك التي لم تجد أبداً قاعدة ترتفع عليها).
يتساءل الذي يترحّل ولا يعرف بعدُ المدينة التي تنتظره
على خريطة إمبراطوريتك، أيّها الخان الأكبر، لا بدّ أنّ هناك مكاناً لكلّ من فيدورا الحجارة الكبيرة والفيدورات الصغيرات في الكرات الزجاجية. ليس لأنها كلُّها حقيقية على حدّ سواء، بل لأنّها كلّها ليست إلّا افتراضات. الأولى تحتوي على ما هو مقبول بوصفه ضرورياً بينما هو لم يصبح كذلك بعد؛ الأخريات يحتوين على ما هو متخيّلٌ بوصفه ممكناً، وبعد لحظة لاحقة لا يعود ممكناً.
مدن وعلامات (3)
يتساءل الإنسانُ الذي يترحّل ولا يعرف بعدُ المدينة التي تنتظره على امتداد طريقه، ماذا سيشبه القصر، الثكنات، الطاحونة، المسرح، البازار. في كلّ مدينة من مدن الإمبراطورية كلُّ مبنىً مختلفٌ ومرتّب وفق نظام مختلف: ولكن ما أن يصلَ الغريبُ إلى المدينة المجهولة، ويتغلغلَ بصره في مخاريط الباجودات الصنوبرية، والعلّيات، والقشّ المحصود، متابعاً خطوط القنوات العشوائية، الحدائق، أكوام القمامة، حتى يميّز فوراً أيّها قصور الأمراء، وأيّها معابد كبار الكَهَنة، وأيّها الحانة، وأيّها السجن، وأيّها حيّ الفقراء.
يقول البعض إنّ هذا يثبت فرضية أنّ كلّ إنسان يحمل في ذهنه مدينةً مصنوعة من اختلافات فقط، مدينة بلا شكل ولا بُنى، تملأها المدن الفردية تماماً.
هذا ليس صحيحاً بالنسبة لمدينة زويي. في كلّ موضع من مواضع هذه المدينة تستطيع، من جهة أخرى، أن تنام، تصنع أدوات، تطبخ، تراكم الذهب، تتعرى، تمتلك نفوذاً، تبيع، تستفتي العرّافين. أيُّ سقفٍ من سقوفها الهرمية يمكن أن يغطّي مشافي المجذومين أو حمامات المحظيات. إن المسافر لَيتجوّل في أرجائها ولا يملك سوى الشكوك: إنه غير قادر على تمييز ملامح المدينة، وتختلط الملامح التي يحتفظ بها مميّزة في ذهنه أيضاً. إنه يستنتج التالي: إذا كان الوجود في كلّ لحظاته هو كلّ ذاته، فمدينة زويي هي مكان الوجود الذي لا يقبل الانقسام. ولكن لماذا تظهر المدينة إلى حيّز الوجود إذاً؟ أيُّ خطٍّ يفصل الداخل عن الخارج؟ يفصل قعقعة العجلات عن عواء الذئاب؟
مدنٌ خِفاف (2)
والآن سأحكي عن مدينة زنوبيا العجيبة من نوعها: فمع أنها تقع على قطعة أرض جافة، إلّا أنها تقوم على دعائم عالية، والبيوت من القصب والزنك، ذات عدد كبير من المنصّات والشرفات المقامة على ركائز خشبية بارتفاعات متفاوتة، تتقاطع إحداها مع الأخرى، تصل بينها سلالم وأرصفة مُشاة معلقة، تعلوها مبانٍ مشرفة ذات سقوف مخروطية، براميلُ تخزين مياه، دواراتُ رياح، وبَكَراتُ ناتئة، وقَصَبُ صيد أسماك، وروافع.
لا يتذكّر أحدٌ أيّة حاجة أو أمر أو رغبة دفعت مؤسّسي زنوبيا إلى إعطاء مدينتهم هذا الشكل، وهكذا لا تُعْلِمنا المدينة كما نراها اليوم عمّا إذا كانت راضية، هي التي ربما نمَتْ خلال تراكبات متتابعة منذ البداية، وأصبحت الآن خطّة بنائها لغزاً لا يمكن حلّه. ولكنّ المؤكد هو أنّكَ إذا طلبتَ من أحد سكّان زنوبيا أن يصف رؤياه لحياة سعيدة، فسيكون ما يتخيّله دائماً مدينة تشبه زنوبيا بدعائمها وأرصفة مُشاتها المعلقة، زنوبيا مختلفة اختلافاً تامّاً ربما، رفرفة برايات وأشرطة، ولكنّها مشتقّة دائماً من مزيج عناصر ذلك النموذج الأول.
كأنّ مدناً مختلفة تتوالى فوق بعضها في الموقع نفسه
من هنا قيل إن من العبث محاولة تقرير ما إذا كان تصنيف زنوبيا يقع بين المدن السعيدة أو بين المدن التعيسة. لا معنى لتقسيم المدن إلى هذين النوعين، بل تقسيمها إلى نوعين آخرين: تلك التي تُواصل عبر السنوات والتغيرات إعطاء أشكالها للرغبات، وتلك التي إمّا أن تمحو فيها الرغباتُ المدينةَ، أو تمحوها المدينةُ.
مدنٌ متاجِرة (1)
بتقدمّكَ مسافة ثمانين ميلاً مع الريح الشمالية الغربية، تصل إلى مدينة يوفيميا، حيث يتجمّع تجّارُ أممٍ سبع عند كلّ انقلابٍ صيفيّ وانقلابٍ ربيعيّ. الزورق الذي يرسو هنا بحمولة من زنجبيل وقطن سيُبحر مرّة أخرى، عنبرُه ممتلئ بجوز الفستق وبذور الخشخاش، والقافلة التي أنزلت لتوّها أكياس جوز الطيب والزبيب، بدأت تحشو عدولها بلفائف الموسلين الذهبي استعداداً لرحلة العودة. ولكنّ ما يدفع الرجالَ إلى السفر عبر الأنهار وعبور الصحاري للمجيء إلى هنا، ليس تبادل البضائع فقط، تلك التي تستطيع العثور عليها هي نفسها في كل مكان، في جميع الأسواق داخل وخارج إمبراطورية الخان الأكبر، متناثرة عند قدميك على الحصائر الصفراء نفسها، في ظلّ المظلّات الواقية الحامية لها من الذباب نفسها، معروضة بتخفيضات الأسعار الكاذبة نفسها. أنتَ لا تجيء إلى يوفيميا لتبيع وتشتري فقط، بل أيضاً لأنه في الليل، وحول النيران المحيطة بالسوق من كلّ جوانبه، وهم جلوسٌ فوق الأكياس أو البراميل، أو متمدّدون فوق حزم السجاد، لدى كلّ كلمة ينطقها إنسان ـ مثل "ذئب"، "أخت"، "كنز محجوب"، "معركة"، "جرَب"، "عشّاق" ـ يقصّ كلّ واحد من الحاضرين قصّته مع الذئاب، الأخوات، الكنوز، الجرَب، العشّاق، المعارك.
وتعرف أنكَ في الرحلة الطويلة التي تنتظركَ، حين تبدأ باستدعاء ذكرياتك واحدة بعد أخرى لتظل يقظا تغالب تمايل الجمل أو اهتزاز الجنك، سيغدو ذئبكَ ذئباً آخر، أختك أختاً مختلفة، معركتكَ معارك أخرى، لدى عودتكَ من "يوفيميا"، المدينة، حيث يُتاجَر بالذاكرة عند كل انقلاب صيفي وانقلاب ربيعي.
بسبب وصوله حديثاً، وجهله باللغات الشرقية جهلاً مطبقاً، لا يستطيع ماركو بولو التعبير عن نفسه إلّا باستخراج أشياء من أمتعته ـ طبول، أسماك مملّحة، قلائد من أسنان خنازير ناتئة ـ والإشارة إليها بإيماءات، بقفزات، بصرخات دهشة أو رعب، محاكياً عواء ابن أوى، نعيب البومة.
لم تكن الصِّلات بين عنصر وآخر من عناصر القصّة واضحة دائماً بالنسبة إلى الإمبراطور؛ قد تكون للأشياء معانٍ متنوّعة: قد تشير جُعبة سهام ممتلئة إلى قرب وقوع حرب، أو وفرة طرائد، أو قد تشير إلى شيءٍ آخر؛ حانوت أسلحة؛ قد تعني ساعةٌ رملية زمناً يمضي، أو زمناً مضى، أو رملاً، أو مكاناً تُصنع فيه الساعات الرملية.
إلّا أن ما عزّز في نظر قبلاي كلّ حادثة وكل خبر نقله إليه مُخبره العاجز عن الإفصاح، كان الفضاء الذي تلبّث حول الحادثة والخبر، خواء غير ممتلئ بالكلمات. وامتلكتْ أوصافُ مدنٍ زارها ماركو بولو هذه الفضيلة: يمكنك الجوَلان فيها بالفكر، أو أن تضيع، أو تتوقّف وتستمتع بالهواء البارد، أو تفرّ.
مع مضيّ الزمن، بدأت الكلماتُ في حكايات ماركو تحلّ محلّ الأشياء والإيماءات: أوّلاً علامات تعجّب، أسماء معزولة، أفعال قليلة، ثم عبارات، أحاديث متشعّبة ومورقة، استعارات ومجازات. لقد تعلّم الأجنبي التحدّث بلغة الإمبراطور، أو تعلّم الإمبراطور فهم لغة الأجنبي.
ولكنْ يمكنكَ القول إنّ التواصل بينهما كان أقلّ بهجةً ممّا كان عليه في الماضي: لا ريب أن الكلمات كانت أعظم فائدة من الأشياء والإيماءات في تعداد أكثر الأشياء أهمّيةً في كلّ مقاطعة ومدينة ـ نصُب تذكارية، أسواق، أزياء، حيوانات ونباتات إقليمية ـ ومع ذلك، فإن ماركو بولو حين بدأ يتحدّث عن كيف يجب أن تكون الحياة في تلك الأماكن، خذلته الكلمات، وعاد شيئاً فشيئاً إلى الاعتماد على الإيماءات والنظرات الخاطفة وتقطيبات الوجه.
وهكذا، بالنسبة إلى كلّ مدينة، بعد المعلومات الأساسية المعطاة بكلمات محدّدة، كان يتابع بتعليقٍ صامت، رافعاً يديه، مبسوطة الراحتين أو مقلوبةً أو جانبية، بحركات مستقيمة أو منحرفة، بطيئة أو متشنّجة. كان ينشَأ نوعٌ من حوار جديد: يدا الخان الأكبر البيضاوان، المثقلتان بالخواتم، تُجيبان بحركات جليلة على يدي التاجر البارعتين والعصبيّتين. ومع تنامي نوع من الفهم بينهما، بدأت أيديهما تتّخذ أساليب ثابتة، يتّسق كلُّ واحد منها، في تناوبها وتكرارها، مع تغيُّر في المزاج.
وفيما كانت مفردات الأشياء تتجدّد مع عيّنات جديدة من البضائع، مالت ذخيرة التعليق الصامت إلى أن تصبح مستقرّة ومنغلقة. وتلاشت بهجة العودة إليها لدى كليهما أيضاً؛ وظلّا في أحاديثهما، معظم الوقت، ساكنين وصامتين.
* ترجمة: محمد الأسعد