رغم أن رواية الكاتب السنغالي الشاب محمد مبوغار سار (مواليد 1990)، "ذاكرة البشر الأكثر سِرّيةً"، بدت في الأيام والأسابيع الماضية من أكثر الأعمال اقتراباً من نيل جائزة "غونكور"، فإن إعلانها فائزةً بهذه الجائزة الأدبية الأبرز في فرنسا، يوم الأربعاء الماضي الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، ظلّ مصدر تعجُّب وإعجاب قبل كلّ شيء، لدى القسم الأعظم من الصحافة الفرنسية.
لم يكن هذا التعجُّب إنكارياً، أو متعالياً على عملٍ "أجنبيّ" يُجمع أغلب النقّاد على كونه من الطراز الرفيع، بل على "لااعتياديّته"، التي تُحال إلى عدّة أسباب. أوَّلُ هذه الأسباب، التي تحضر في مقالات المعلّقين على نيله الجائزة، هو عمر الكاتب، الذي لا يزال في الحادية والثلاثين، والذي يعدّ ثاني أصغَر مَن نالها في الأعوام الـ37 الأخيرة، وثاني أصغر مَن نالها على الإطلاق، بعد الفرنسي باتريك غرينفيل، الذي حازها وهو في التاسعة والعشرين من عمره (1976).
ثاني مظاهر اللااعتيادية، وربما يكون أهمُّها، هو أنّ الكاتب سنغالي، أفريقي، مهاجرٌ في فرنسا. أمّا ثالثها، فهو أن الكتاب صدر لدى دارَيْ نشرٍ غير معروفتَيْن تماماً، ولم يسبق لهما أن نافستا على الجائزة من قبل: دار "جيمسان" السنغالية ودار "فيليب راي" الفرنسية. كلُّ هذا يجعل من فوز محمد مبوغار سار بالجائزة حدثاً استثنائياً.
لكنّ الاستثنائيةَ لا تتوقّف عند شخص الكاتب، بل تشمل أيضاً روايته، التي تُعَدّ من الأعمال الصعبة القليلة التي أجمعت عليها لجان "غونكور" في العقود الماضية. صعوبةٌ اشترك كثيرٌ من النقّاد بالتعبير عنها بعبارة "رواية ذهنية"، كما فعلت صحيفة "لوموند". فالرواية المستلهَمة من حياة الكاتب المالي يامبو أوغولم مكتوبةٌ بلغةٍ تفكِّر بنفسها وهي تنكتب، بلغة تتساءل، وتشكّ، وتعيد صياغة المواقف والأحداث انطلاقاً من رؤية تحليلية.
لا تقف الاستثنائية عند شخص الكاتب، بل تشمل روايته أيضاً
لكنّ هذا لا يجعل منها عملاً "فكرياً" ناشفاً، بحيث يصبح السرد ذريعةً لتمرير مقولات وأطروحات، بل إن الفكر فيها يذوب داخل السرد، باعتبار أن شخصياته الأساسية تنتمي إلى عالم الكُتّاب والمثقّفين والناشرين، حيث تحكي قصّة كاتب شاب يقيم في باريس، هو دييغان لاتير فاي، واكتشافه كتاباً غريباً وعلى درجة عالية من الأهمية. كتابٌ يعود لمؤلّفٍ أفريقي (ت. س. إليمان) دخل حيّز النسيان، بحيث لم يبقَ كثيرٌ من آثاره في عام 2018 الذي تُفتَتح خلاله أحداث الرواية. إضافة إلى هذا، تقوم الرواية على درجة عالية من التهكُّم، والسخرية أحياناً، وهو ما لم ينسَ ذكرَه أغلب النقّاد الذين كتبوا عنها، والذين أشادوا بجمعها بين التطلُّب وخفّة الدم، بين العمق والنفاذ بسهولة إلى القرّاء.
في تعليقٍ له على فوزه بالجائزة، ذكّر مبوغار سار بمقولة نظيره أولوغم، الذي استلهمَ منه عمله: "لا تمنح الجوائز الأدبية، لمَن ينالها، أيّة مكانة أدبية أو حتى تجارية (...). تبقى الميداليات أكثر عدداً من الكتّاب". وإن بدا متواضعاً في مقولة كهذه، فإنّه أظهر أيضاً، في المقابلة نفسها ــ التي أجرتها معه منصّة "بروت" الإعلامية الفرنسية ــ انتباهاً وحِسّاً نقدياً عالياً، حيث انتقد أن يكونَ مَنْحُ كاتب من "الهامش" جائزةً كهذه لأسباب متعلّقة بالصوابية السياسية.
ورغم أن أحداً من لجنة "غونكور" أو من النقّاد الأدبيين لا يعتقد أنه مُنح الجائزة لسبب كهذا (وصلت روايته إلى القائمة القصيرة لأكبر الجوائز الأدبية الفرنسية هذا العام)، إلّا أن محمد مبوغار سار أراد استباق الأمور حتى قبل ترشيحه لنيلها، إذ يكتب في روايته متحدّثاً إلى زملائه من الكتّاب الأفارقة، وربّما إلى نفسه: "احذروا، أيها الكتّاب والمثقّفون الأفريقيون، من بعض مظاهر الاعتراف. لأنكم، في العمق، ستبقون غرباء، مهما كانت قيمة أعمالكم".