محمد غني حكمت.. مذكرات نحّات بغداد

23 مايو 2021
(محمد غني حكمت، 1929 - 2011)
+ الخط -

عاشت بغداد حراكاً تشكيلياً في أربعبنيات وخمسينيات القرن الماضي اتّكأ على مقولة أساسية تتمثّل في إحياء الموروث الرافديني، والحضارة الإسلامية بمدارسها الزخرفية والحروفية المتعدّدة، ضمن رؤية حداثوية، مع عدد من الفنانين الذين أسّسوا جماعات وتيارات متنوّعة من أمثال جواد سليم وفائق حسن وشاكر حسن آل سعيد وآخرين.

في مذكّراته التي أعدّها الباحث شاكر لعيبي وصدرت حديثاً عن "دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع" في عمّان، يقدّم النحّات العراقي محمد غني حكمت (1929 – 2011) مشاهد من تجربة ممتدّة على مدار نحو خمسة عقود، منذ أن كان طالباً على مقاعد الدراسة وانجذب إلى تلك التنظيرات التي دعت إلى تجديد الفن في بلاده.

يتضمّن الكتاب دراسة، وحواراً مع الفنان، ورسوماً، ويوميات مخطوطة كُتبت بين عامي 1951 و2000، إلى جانب العديد من الصور الضوئية. ويستعيد المؤلّف السياق الذي عاشه معظم النحّاتين العراقيين والعرب في الثلاثينيات والأربعينيات، حيث كانت ممارسة النحت ما تزال تُعَدّ فعلاً مشبوهاً من الناحية الدينية، ومكروهاً من الناحية الاجتماعية، بسبب إرث تاريخي طويل.

يتضمّن الكتاب دراسة، وحواراً مع الفنان، ورسوماً، ويوميات مخطوطة كُتبت بين عامي 1951 و2000، إلى جانب العديد من الصور الضوئية

يستشهد لعيبي بمقابلته مع الفنان الذي استذكر خلالها كيف اعترض الجيران في مدينة الكاظمية، حيث نشأ حكمت، أمام والده على اشتغال ابنه بالنحت، وكان "المضيّ بعيداً بتجاهل الاعتراضات فعلاً مغامِراً لوحده، وشجاعاً بحدّ ذاته"، موضّحاً أننا أمام جيل كان بِلا "معلّمين محليين"، الأمر الذي قاد إلى أن يسعى الجميع لتكوين معارف ذاتية وتركيب خبرات جمالية شخصية اعتماداً على الذائقة وتراكم التجربة.

ويعود إلى عام 1947 حين تخرّج الفنان من "معهد الفنون الجميلة" في بغداد، وانضمّ بعد أقل من ستّة أعوام إلى "جماعة بغداد للفن الحديث"، وشارك في معرضها الثاني سنة 1953 بستة تماثيل من الجبـس والخشـب، كما اشترك في معرضها الثالث في السنة التالية بعشر منحوتات استخدم في تنفيذها المرمر أيضاً، وكان الفارق الأساسي بين هذه الجماعة و"جماعة الروّاد" التي كان التنافس فيما بينها آنذاك يكمن في استلهام الأجواء المحلّية ومفرداتـها الجمالية وموضوعاتها الشعبية، واسـتعادة مناخات الفـنّ الرافديني، والفن الإسلامي ومنمنمات يحيى بن محمود الواسـطي، من دون إغفال الاتجاهات الفنية العالمية.

غلاف الكتاب

ويرى لعيبي أن معظم منحوتات حكمت تدلّ على ارتباطه بالعناصر التاريخية والميثولوجية العربية، منذ أعماله الأولى وحتى رحيله بوعي نقديّ جماليّ، ومنها "أبو جعفر المنصور" التي تعود إلى أواخر السبعينيات، و"مصباح علاء الدين" التي نصبت في ساحة الفتح ببغداد عام 2011، و"كنيسة الصعود" التي تمثّل المحطة السادسة من درب الصليب، و"نافورة بغداد أو أشعار بغداد" وهي منفّذة بشـكل كرويّ من الحروف العربية وفي محيطها بيتٌ للشاعر العراقي مصطفى جمال الدين (1926 – 1996).

كما يتحدّث عن تمثال "شهرزاد وشهريار" الذي أنجزه في منتصف السبعينيات، وترتكز فيه الشخصيّتان على سبعة مدرّجات من الحجر، لافتاً إلى أن القراءات الجمالية والتشكيلية الخالصـة لهذا العمل نادرة، إذ قُرئ من زاوية أدبية في الغالب: جارية بارعة ــ هي شـهرزاد ــ تُخادع سيّدها الذي كان يقتل كلّ ليلـة فتاةً، وهي تروي له حكاية لا تتنتهي، لألّا يقتلهـا، فينام وينسى أمرهـا لليوم التالي، بينما يجدر الانتباه إلى مسائل أخرى كالفراغ الذي يفصل بين التمثالين، والذي يحتاج مثلاً إلى قوس أو شيء ملموس لخلق علاقة بينهما، لكنه تعمّد ذلك من أجل أن يترك للمتلقّي الحرّيّة التخيلية لملء هذا الفضاء.

(تمثال "شهرزاد وشهريار" لمحمد غني حكمت)
(تمثال "شهرزاد وشهريار" لمحمد غني حكمت)

يحلّل لعيبي أيضاً بعض تخطيطات ورسوم حكمت، منها ما أنجزه، وأخرى لم تجد فرصة لاكتمالها في منحوتة، مثل رسم له من عام 1983، يبدو وكأنه يقدّم مشروع عملٍ ليس معروفاً، ويظهر فيه كائنٌ طائر على نمط عبّاس بن فرناس أو ملاك، وهذا احتمال قوي.

يخلص المؤلّف إلى أن محمد غني حكمت نحّاتٌ متفرّد بعناصر كثيرة تداخلت في صلب تجربته، كما لازمته الرصانة والأمانة طوال سنيّ حياته، مبيّناً أنه تناول الدقائق والتفاصيل البسيطة في يوميّاته المخطوطة بخط يدّه، والتي أُرفقت في نهاية الكتاب، حيث يسرد فيها أموراً شخصية وأخرى تتعلّق بالعائلة وطبيعة عمله وتفاصيله.

كما ينشر لعيبي مجموعةً من الصور الشخصيّة للفنّان يعود أقدمها إلى عام 1950، وأخرى أثناء دراسته في أكاديمة الفنون الجميلة بروما التي تخرّج منها سنة 1961، ثم تحمل أخرى تواريخ لاحقة للقاءاتٍ له أو فوتوغرافيا شخصية وعائلية أو تصوِّر عمله في مشغله في بغداد، وفي بيروت وعمّان، وصولاً إلى منتصف العقد الأوّل من الألفية الثالثة.
 

المساهمون