في ثلاثينيات القرن الماضي، عاش محمد غني حكمت، الذي تحلّ اليوم ذكرى رحيله، طفولته يلهو بتماثيل يصنعها من الطين والعجين في بيته المطلّ على نهر دجلة ويعبث بخطوطه على جدران الحارة التي وُلد فيها بمنطقة الكاظمية في بغداد. كان كلّ شيء بالنسبة له قابلاً أن يُرسم عليه أو يُعاد تشكيله.
يروي النحّات العراقي (1929 – 2011) في مقابلة تلفزيونية كيف رسَم بورتريهات هتلر وموسوليني وستالين وتشرشل أثناء الحرب العالمية الثانية، مواصلاً النحت، لكنّه لم يعلم حينها كيف يثبّت تماثيله حتّى دخل "متحف التاريخ الطبيعي"، ليتعلّم هناك تحويل الطين إلى جبس، فنحَت جميع أفراد عائلته وأصدقائه وشخصيات من ذلك الزمن، قبل أن يبلغ السابعة عشرة.
تحضر هذه الخلفية عند استعادة سيرة حكمت الذي تخرّج من "كلية الفنون الجميلة" في العاصمة العراقية سنة 1947، ثم التحق بأوّل التيارات الفنيّة التي ظهرت آنذاك مُمثّلة بـ "جماعة بغداد للفن الحديث"، وشارك في معرضها الثاني سنة 1953 بستة تماثيل من الجبس والخشب، كما اشترك في معرضها الثالث في السنة التالية بعشر منحوتات استخدم في تنفيذها المرمر أيضاً. وقد جسّدت هذه المنحوتات توجهات الجماعة بإحياء التراث العراقي بجذوره المتعدّدة؛ رافدينية قديمة وعربية إسلامية ضمن رؤية حداثوية تنفتح على المدارس العالمية.
في تلك الفترة، بدا صاحب تمثال "عشتار" متأثّراً بأسلوب جواد سليم وأفكار جماعته في مجموعة النصب والجداريات والمصغرّات النحتية التي نفّذها آنذاك وتوظّف رموزاً سومرية وبابلية وعباسية، لكن الأمر اختلف بعد دراسته في "أكاديمية الفنون الجميلة" في روما، مدّة سبع سنوات، حيث تخرّج منها عام 1959. كما نال شهادتي دبلوم؛ واحدة في الميداليات من مدرسة "ألزكا" في العاصمة الإيطالية، وأُخرى في صبّ البرونز من فلورنسا عام 1961.
أصبحت أشكال حكمت بعد عودته من إيطاليا متحرّكة أكثر مع نزوعه نحو التجريد والاختزال، محافظاً في الوقت نفسه على عناصر البيئة المحلية، حيث دمج بين لغة تعبيرية مستمّدة من التراث الحضاري العراقي المتعدد وبين أسلوب تجريدي. كما تعدّدت أيضاً وسائطه الفنية حيث بدأ تعامله مع مواد غير مستخدمة من قبل مجايليه مثل البرونز والرخام.
تعمّق بعد ذلك في دراسة الكتل والمساحات وتوزيع الضوء على سطوح الأعمال المنحوتة، التي هيمنت عليها زخارف مستمّدة من ميثولوجيا ما بين النهرين، وبرز لاحقاً نظام تكراري اعتمد فيه الحروفية العربية، قبل أن يصوغ تشكيلات ونماذج خاصّة به أكثر تجريدية للعوالم المشخّصة التي يتعامل معها.
شكّلت بغداد فضاء أساسياً لهذه الرؤى التي تطوّرت مع الزمن، بمجموعة نصب تحيل إلى طبقات تاريخ المدينة المُتراكمة وأهمّ شخصياتها وأساطيرها التي تختزنها المخيّلة الشعبية، كما في ِتمثال شهريار وَشهرزاد، ونَصب كهرمانة، وعلي بابا والأربعين حرامي، وجدارية حمورابي، وتمثال أبي الطَيب المُتنبي، ونصب الفانوس السحري، و"إنقاذ الثقافة" (أو نصب العراق ينهض من جديد)، ونَصب الحرية الذي صمّمه جواد سليم وأكمل تنفيذه حكمت.
يشير الشاعر والباحث العراقي شاكر لعيبي في كتابه "محمد غني حكمت 1929 ـ 2011" الذي صدر عام 2021، إلى أنَّ معظم أعمال "نحّات بغداد" تدلّ على ارتباطه بالعناصر التاريخية والميثولوجية العربية، منذ أعماله الأولى وحتى رحيله بوعي نقديّ جماليّ، ومنها "أبو جعفر المنصور" التي تعود إلى أواخر السبعينيات، و"مصباح علاء الدين" التي نصبت في ساحة الفتح ببغداد عام 2011، و"كنيسة الصعود" التي تمثّل المحطة السادسة من درب الصليب، و"نافورة بغداد أو أشعار بغداد" وهي منفّذة بشكل كرويّ من الحروف العربية وفي محيطها بيتٌ للشاعر العراقي مصطفى جمال الدين (1926 – 1996).