حاولت العوالم التي رسمتها روايات نجيب محفوظ (1911 - 2006) أن تحيط بما يدور في الواقع المصري خلال القرن العشرين، وهو مطلب لا يمكن ألا يلامس أحد مكوّنات هذا الواقع، ونعني الصحافة، لتظهر شخصيات أدبية كثيرة اصطنعها محفوظ واتخذت من العمل الصحافي مجال تحرّك، أبرزها كمال عبد الجواد في الثلاثية، ورؤوف علوان في "اللص والكلاب".
في كتابه الصادر أخيراً بعنوان "الصحفي في أدب نجيب محفوظ" (العربي للنشر والتوزيع، نوفمبر 2021)، يرصد الباحث والأكاديمي المصري محمد حسام الدين إسماعيل طيف المشتغلين بالصحافة في روايات صاحب "الشحّاذ"، ليجدهم قرابة الستين عدّاً.
يعتمد الكتاب على أدوات حقول متعددة مثل الدراسات الثقافية، وعلم اجتماع الأدب، مناهج تحليل الخطاب الإعلامي، ليرسم صورة الصحافي وتلوّناتها في مدوّنة محفوظ، روايات وقصصاً قصيرة وكتابات سيرية متفرّقة، أي من روايته الاجتماعية الأولى "القاهرة الجديدة" (1945) إلى "أحلام فترة النقاهة: الأحلام الأخيرة"، وهو عمل صدر بعد رحيل صاحبه، تحديداً عام 2015.
دراسة صورة الصحافة في الأدب تكثيف للمشهد الأوسع للحياة
كثيراً ما يؤكّد المنظّرون أن الأدبَ في كونه يمثّل مرآة للواقع الاجتماعي، هذا يعني أن دراسة العمل الأدبي ستقودنا بالضرورة إلى فهم مكثّف للقضايا والظواهر التي يتناولها، باعتبار أن العالم الأدبي قابل للإمساك البحثي، أما الواقع فهو مفلت متحرّك باستمرار. بهذا المعنى، فإن صورة الصحافة معكوسة في مرآة أدب نجيب محفوظ تصبح أداة لفهم الصحافة كظاهرة تقع في حياتنا كل يوم.
يبرز المؤلف كيف يرسم محفوظ صورة الصحافة حين يمرّر الكثير من المعرفة حولها، وهنا يفرّق إسماعيل بين المعرفة المرتبطة بالسياقين المكاني والزماني اللذين يتقاطع معهما محفوظ (مصر القرن العشرين)، وبين المعرفة الشاملة بالصحافة لكونها تعبيراً شاملاً حول ثقافة ما، وبالتالي إن دراسة صورة الصحافة تكثيف للمشهد الأوسع للحياة كما رسمها محفوظ في كتاباته السردية.
يبقى أهم ما يلتقطه إسماعيل من حضور الصحافيين في العوالم التخييلية لنجيب محفوظ، أنهم كانوا يمرّرون موقفه من الصحافة ذاتها، فأن يقدّم شخصية صحافي متسلّق مثل رؤوف علوان ضمن صراعه مع بطل رواية "اللص والكلاب"، سعيد مهران، فهو يضع تحت الضوء ذلك الدور التبريري الذي تلعبه الصحافة لجرائم عدة (لعلّ أهونها جرائم سعيد مهران) في وقت يكون فيه الصحافيون - مطلقو هذه التبريرات ومهندسو حججها - أوّل من يتخلى عنها في حال استشعارهم أنها باتت عبئاً ثقيلاً عليهم وهم يتسلّقون السلّم الاجتماعي.
هذه الصورة المكثّفة في علاقة شخصيّتين أدبيتين، رؤوف علوان وسعيد مهران، ما هي إلا نموذج تخييلي يمكّننا من فهم أعمق لكثير من ظواهر الحياة الإعلامية في كل عصر وفي سياق أي ثقافة. وما فائدة قراءة الأدب لو لم يمدّنا بشيء من ذلك نتسلّح به أمام طوفان المغالطات التي نتعرّض له جميعاً في علاقتنا بالصحافة.
يُبرز محمد حسام الدين إسماعيل بعداً آخر في علاقة أدب نجيب محفوظ بالصحافة يتعلّق بالتيارات الفكرية السائدة في كل مرحلة، سواء عليه هو شخصياً أو في تشكيل شخصيات الصحافيين، وهي تتلوّن من النزعة الليبرالية عند كمال عبد الجواد وأصحابه بعيد ثورة 1919 إلى آثار سياسات الانفتاح، وكيف ينعكس كل ذلك على طرق ممارسة الصحافة وعلى أخلاقياتها ومطامح المشتغلين فيها.
لا يبتعد هذا الكتاب عن مؤلفات أخرى لمحمد حسام الدين إسماعيل، الأستاذ بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، تندرج ضمن الدراسات الثقافية في تقاطعها مع الإعلام وظواهره، من ذلك: وله عدة كتب من أهمها: "الصورة والجسد: دراسات نقدية في الإعلام المعاصر" (2008)، و"ساخرون وثوّار: دراسات علاماتية وثقافية في الإعلام العربي" (2014)، و"النجومية الإعلامية في مصر" (2016).