لامتهانهم الكذب والتدليس، لم يترك أفلاطون مكاناً لفئتين من البشر في مدينته الفاضلة: الشعراء والفنّانون. الموقف الشهير لأفلاطون من الشعراء لم يكن قاطعاً تماماً؛ إذ إنّه ترك مساحة للفنّانين على نحو ضمني في محاورة "الجمهورية"، ملمّحاً إلى أنّ وجودهم مرهُون بكيفية تأطيرهم على نحو يساعد على بناء "المواطن النموذجي".
وعلى الرغم من أنّ الفلسفة الغربية تبدو وكأنّها تجاوزت الرؤية الأفلاطونية للفنّ، فإنّ النظريات الأساسية التي تقوم عليها الفلسفة السياسية في الغرب لا تزال تستلهم من النماذج التي تطرحها الفلسفات الكلاسيكية وترى فيها معيناً لا ينضب لأفكار يمكن تطويعها وتكييفها بحسب مقتضيات العصر ومتطلّباته.
ولعلّ المتأمّل في النموذج الغربي للديمقراطيات المعاصرة من شأنه أن يخرج بنتائج مثيرة للاهتمام عن كيفية التوظيف السياسي للشعراء والفنّانين بما يتوافق مع الطرح الأفلاطوني للمدينة الفاضلة. فكيف تعيش إيطاليا هذه الرؤية؟
في هذه الأيام، تستعد إيطاليا لخوض انتخابات برلمانية (تُجرى الأحد المقبل) يُنتظَر أن يسفر عنها وصول وزيرٌ أوّل جديد إلى الحُكم. وتُظهر نتائج الاستطلاعات تصدُّر حزب "فراتيلي ديتاليا" المشهدَ بزعامة جورجيا ميلوني، وهي من انتهجت إستراتيجية المعارضة المطلقة، بِعدم القبول بأيّة تسويات للانضمام لأيّة حكومة شُكّلت في السنوات الأخيرة، ما جنّبها التورّط المباشر في اتخاذ أيّ من التدابير التي أثارت سخط الإيطاليّين على الحكومات السابقة، لاسيما خلال أزمة الجائحة.
ترتبط شعبية اليمين اليوم بالأزمة الثقافية لدى اليسار
وإلى جانب هذا المعطى الجوهري في تسيير اللعبة السياسية، يُجمع قسم كبير من الإيطاليّين على أنّ الارتفاع القياسي لشعبية اليمين يعود في جزء كبير منه إلى الأزمة الثقافية العميقة التي يعيشها اليسار الإيطالي بمختلف تشكّلاته. إذ لا تزال أسهم اليسار في هبوط كلّما تماهى مع النموذج الأميركي الليبرالي وأمعن في استيراد الأنساق الثقافية التي يطرحها هذا الأخير، مع كلّ ما يكتنف ذلك من خيانة لتاريخ اليسار الإيطالي.
"الهوية الجندرية"، "إيجابية الجسد"، "الصوابية السياسية"... مصطلحات طغت على الخطاب الثقافي في إيطاليا في السنوات الأخيرة، حيث لم يعد يخلو أيّ فيلم أو برنامج تلفزيوني أو ملصقة فنّية أو إعلان تجاري أو أغنية، من إحالات إلى المثلية والنسوية والكويرية، وكلّ ما يتّصل بها من قاموس الليبرالية المستورد مباشرة من أميركا.
وعلى عكس كبار فلاسفة ومفكّري إيطاليا المعاصرين على غرار كاتشاري وغاليمبرتي وأغامبين، الذين لطالما حذّروا من الخضوع للنموذج الأميركي، يصرّ صغار مثقّفي إيطاليا وفنّانيها على توظيف مفردات ثقافية محدّدة في خطاباتهم ـ أحياناً كثيرة أيضا دون ترجمة ـ على غرار أن تكون cisgender مناضلاً في حركة free the nipple وداعماً للـ gender fluid، بالإضافة إلى التنديد بالـ pink washing دون نسيان المطالبة بحقوق الـ sex workers.
وإن كان هذا التوجُّه لدى الكثيرين يندرج في سياق الانقياد لنضالات التيار السائد ـ إمعاناً في المحاكاة mimesis التي تجعل هؤلاء أبعد مرّتين عن الحقيقة بتعبير أفلاطون ـ فهو لا يخرج بحسب الكثير من المراقبين عن دائرة الغزَل الموجّه لمصادر التمويل.
وكان الفيلسوف الفرنسي، ميشيل أونفري، قد ذكر في حوار مسجَّل له قبل أشهر أنّ الصوابية السياسية، وغيرها من الإحالات الثقافية للفكر الليبرالي أمرٌ تفرضه جهات الإنتاج في الأعمال الفنية - بحسب ما أسرّ له به مخرجون وعاملون في قطاع السينما - مؤكّدين له أنّ أيّة محاولة للخروج عن الصفّ قد تكلّف الفنّانين تجفيف منابع التمويل وطردهم من "المدينة الفاضلة". هذه الرؤية التي قد يستغرب بعض الطوباويين وجودها في الديمقراطيات الغربية، لا علاقة لها بنظرية المؤامرة وإنما بفكر سياسي حقيقي لا يرى أنّ للفنان وظيفة أُخرى سوى الترويج لقيم السلطة (المموِّلة).
والواقع أنّ المراقب للساحة الإيطالية في الوقت الحالي لا يكاد يعثر على أيّ اسمٍ وازن لمثقّف مستقلّ واحد يروّج لسلطة النموذج الثقافي المعولم الذي يطرحه اليسار اليوم، وذلك بالرغم من أنّ مجد إيطاليا الثقافي الحديث صنعه مثقّفون يساريون، لعلّ أهمّهم وأجرأهم على الإطلاق كان الشاعر والمخرج بيير باولو بازوليني، الذي وقف إلى آخر نفس من حياته يحارب التدجين الثقافي ـ قبل أن يُغتال في ظروف غامضة ـ وهو من كان يُعرف بمعارضته الشديدة للنضالات الجوهرية ليسار اليوم؛ على غرار الإجهاض وزواج المثليّين، بالرغم من أنّه كان هو نفسُه مثليّاً.
قيم ليبرالية ليست أكثر من غزل موجّه لمصادر التمويل
وهذا الوضع هو ما دفع بشاعر مثل دافيدي روندوني لإعلان اصطفافه السياسي في هذه الانتخابات على نحو لا يخلو من مفارقة: "من يرغب في التصويت لليسار، فلينتخب تحالف اليمين، أمّا من يرغب في التصويت لليمين فلينتخب الفاشية الجديدة كما كان يُطلِق عليهم بازوليني، اليسار".
من جانبه، لم يتردّد المفكّر الإيطالي - غير المصنّف أيديولوجياً - بييترانجيلو بوتافووكو Pietrangelo Buttafuoco في الإعراب عن قلقه من عهدة جديدة لليسار، واعتبر أنّها قد تكون مدمّرة لإيطاليا، بل ذهب أبعد من ذلك ووصف حزب "فراتيلي ديتاليا" وجبهة المحافظين حالياً بأنّهم الأكثر إحساساً بهموم الإيطاليين.
أمّا القنبلة الكبرى، فقد فجّرها أحد أهم فلاسفة إيطاليا المعاصرين، الشيوعي ماسيمو كاتشاري Massimo Cacciari عندما وصف حزب جورجيا ميلوني، قبل أيام قليلة من انطلاق الحملة الانتخابية، بأنه "حزب يميني يحمل همّاً اجتماعياً"، ليضيف بعدها: "على اليسار أن يصبّ اهتمامه على ذات الانشغالات التي تحرّك اليمين: الصحّة، والتعليم، والشغل".
والواقع أنّ بوتافووكو وكاتشاري كانا يغمزان من قناة هموم التقدّميين الذين تكاد تنحصر أشرسُ نضالاتهم في السنوات الأخيرة على الأعضاء التناسلية للمرأة، من خلال تنظيم مهرجانات ثقافية خاصّة بالدورة الشهرية وحملات للاحتفاء بشعر الإبط، وإذ يَتقدّم أبرزَ مطالب الأحزاب اليسارية في هذه الحملة الانتخابية قانونٌ لتأجير الأرحام، وتشريعُ تعاطي الحشيش وزراعته للاستهلاك الشخصي على شرفات المنازل. وكانت جريدة "لاريبوبليكا" اليسارية العريقة قد ندّدت، في عز الحملة الانتخابية، بحالة عدم المساواة التي تعاني منها مغنّيات الروك في إيطاليا، المُجبرات على تغطية حلماتهنّ في الحفلات، عكس زملائهن من الرجال الذين يغنّون بصدور عارية.
لم يعد يذهب صوت الناخب العربي آلياً إلى اليسار
السريالية التي يعتمدها الخطاب اليساري في هذه الأيام، تبدو كلّها وكأنّها تدفع الناخب الإيطالي عنوةً لإعطاء صوته لتحالف اليمين. والواضح أنّ أكبر أحزاب اليسار، الحزب الديمقراطي، قد أدرك درجة النفور التي بلغها الناخب الإيطالي من مواضيعه الأثيرة، ما دفعه لترشيح لاورا بولدريني وهي نسوية راديكالية تُعدّ أبرز وجوه الحزب، في إقليم توسكانا المعروف بكونه إقليماً أحمر بالأساس، وذلك لتجنيبها خسارة محقَّقة في إقليم مختلط.
ولكن هل هذا يعني تجهيز اليسار نفسه للجلوس على مقاعد المعارضة في الفترة القادمة، بدل السعي لتحقيق الفوز؟ ما يتّفق عليه الجميع هو أنّ من سيحكم إيطاليا، التي تستعدّ للدخول في أزمة طاقة هذا الشتاء، لن يعيش أزهى فترات حكمه. وقد يكون من المريح سياسياً الجلوس على كرسي المعارضة في ظرف كهذا، والحصول على الحدّ الأدنى من الأصوات بما يكفله الدستور الإيطالي لعرقلة تمرير القوانين أو حتى لحجب الثقة عن الحكومة إذا ما لزم الأمر. لتبقى المعضلة الكبرى لدى اليسار في حال فوز ميلوني هي كيفية تبرير محاربتهم لأوّل امرأة قد تحكم إيطاليا، وهو من يحمل لواء الدفاع عن المرأة وحقوقها؟ قد تساعد نظرية الجندر والبناء الاجتماعي على إيجاد حلول لهذا المأزق. وقد بدأ بالفعل بعض صغار المثقّفين والفنّانين، وعلى رأسهم مغنّية بوب شهيرة، بصياغة تخريجات جندرية تثبت أن جورجيا ميلوني "ليست امرأة... سوى قليلاً"!
والأكيد أنّ التخبّطات العقلية لليسار الإيطالي في الوقت الحالي قد أدخلته نفقاً فكرياً واجتماعياً مظلماً قد لا يخرج منه قريباً، وهو النفق الذي يبدو أنّ الجالية العربية قد أدركت ورطة التوغّل فيه. وفي غياب استطلاعات رأي رسمية (إلى غاية كتابة هذه الأسطر) يُظهر الكثير من المؤشّرات أنّ الصوت العربي لم يعد يذهب آلياً إلى اليسار، وهو ما قد يحطّم اصطفافاتٍ حرمت المثقّف العربي طيلة عقود من المساهمة في صياغة الرؤية الفكرية للناخب الإيطالي، وذلك لارتباط دوائر الترجمة بمؤسّسات محسوبة على تيارات أيديولوجية محدّدة، ما قوّض النزاهة الفكرية لشريحة كاملة من المثقّفين، لم يعد يرى فيهم الإيطاليون سوى موظّفين يعملون في فرع صغير من فروع الترويج للقيم الليبرالية بلغات إيكزوتيكية.
وسواء كانت النتيجة لصالح اليسار في هذه الانتخابات أو لصالح اليمين، فإنّ مثقّفي التيار السائد الإيطالي مدعوّون لمراجعة الأنساق الثقافية التي يحتكمون إليها على نحو يؤهّلهم للإتيان بأطروحات غير مُرتهنة، وذلك احتراماً لتقاليد المقاومة الغرامشانية العريقة التي طالما ندّدت بكافة أشكال الهيمنة بما فيها الثقافية، وثانيها احتراماً لشعوبٍ طالما ناضلت ضدّ الاستعمار وكلّ صور التبعية.
* روائية جزائرية مقيمة في إيطاليا