حتى وقت قريب، اعتاد عددٌ من المثقفين العرب، وفيهم الشاعر والمفكر والروائي وحتى الفنان، على التفكير بقضايا وطنهم بطريقة عجيبة عمادها الكيل بمكيال أصابه الصدأ وانتهت صلاحيته، والتقاط صور للعالم من حولهم بعدسة تصوير انقرض زمنها، والركض لقياس مسافة أصبحت تعدّ بالأميال بمسطرة لا يتعدى طولها الخمسة عشر سنتمتراً!
واعتدنا على رؤية هؤلاء، كلما جدّ جديد أو حدث حادث في هذا البلد العربي أو ذاك، يعودون إلى الكيل والتصوير والقياس بالأدوات القديمة منتهية الصلاحية ذاتها. فنسمع معزوفات مثل: "العرب أمة منقرضة" و"الخرائط تنهار من حولنا"، أو - وهذا هو الأكثر طرافة بين النغمات - "نحن أمة مهزومة" و"العرب لا يجمعهم جامع إنما هم عرقيات وإثنيات وطوائف"، و"حتى خريطة سايكس بيكو تحتاج إلى إعادة نظر ولا بد من إعادة رسمها على مقاسات أصغر"، وأخيراً، ومع انتصار فلسطين ونهوض شعبها على كامل ترابه الوطني، يطلّ هؤلاء من شقوق هنا وهناك ويتساءلون: "أين هو النصر الذي تتحدثون عنه؟".
اللافت للنظر أن أغلب عازفي هذه المعزوفات، ومن يرقصون على إيقاعاتها، هم ممّن جاورهم الحظ والتقطوا لغة فرنسية أو إنكليزية، فذهبوا بموهبتهم "الفريدة" هذه إلى ندوات تعقد هنا أو هناك في فضاء الثقافات، سواء كانت شرقية أو غربية، ليطلقوا هذه النغمات على أسماع أناس فاغري الأفواه مُعجَبين بالمبلغ الذي بلغته "حرية" و"ثقافة" هؤلاء؛ وليمثلوا أدوار قردة في سيرك دولي، ويرتدوا أقنعة ويخلعوا أخرى بين آونة وأخرى، فيسمع المندهشون والمتعجّبون أو يقرأون في الصحف وعلى أغلفة الكتب أحياناً عبارات مثل "نحن المطرودين من الخريطة"، أو "نحن آخر أنبياء الشرق الذين لفظهم شرقهم" أو "نحن شهود اندثار أمة عياناً فصدقونا"، ثم يهمسون في الآذان الصاغية سرّاً: "خذونا إلى معاهدكم وجامعاتكم وأجهزة مخابراتكم، فلن يفيدكم أفضل منا، نحن الذين عرفنا شعاب هذه الأمة، وليس هناك أفضل من خادم عرف الشعاب وتصعلك فيها في شبابه".
أعداء الحاضر
هذه معزوفة انتهت صلاحيتها، لأنها عُزفت وظلت تعزف منذ أكثر من أربعين سنة تقريباً، معزوفة ماض لا يريد أن يمضي رغم ضغط أحداث الحاضر الآخذ بالتشكل على يد قوى شعبية مقاومة جديدة لم يعرفها أصحاب هذه المعزوفات، ولا يستطيعون التعرف إليها لسبب بسيط، إذا أحسنا الظن، وهو أنهم متشبثون بما عرفوه في ماضيهم الآفل بالمخالب والأنياب. ولأن بين أيديهم القديم الذي ذُللت لهم طرقه في غابر الأيام من جانب، وبين أيديهم الجديد الذي يجهلون من جانب آخر، فاحتضنوا الأول وأعلنوا عداءهم للثاني.
الانهزاميّون أعداءٌ لكل ما يذكّرهم بأنهم خارج التاريخ
هم أعداء الحاضر، هم أعداء ثقافة المقاومة في المنطقة العربية وأعداء ثقافة المقاومة الفلسطينية التي استكملت قلب موازين الصراع مع العدو الصهيوني في أيار/ مايو 2021، وجمعت شتات الجغرافية الطبيعية والإنسانية للوطن الفلسطيني، وحققت ما بدا أنه المحال ذاته وفق مسطرة أصحاب المعزوفات التي انتهت صلاحيتها وصلاحيتهم معها.
هم في الحقيقة أعداء فعل وفكر مقاومة تغلّبت بأداة الواقع ذاتها على الأساطير، هم أعداء الواقع، حتى وإن مثل أمام الأعين واستوى قائماً، واقع الوطن العربي الذي حشدت صناعة الأساطير والصور الزائفة في سمائه غيوم التفتت والتقوقع وفقدان الذاكرة، وبدأ يستعيد ما نثروا من شظاياه ويجمع مصادر قوته.
هم قبل كل شيء أعداء كل ما يذكّرهم بأنهم خارج الجغرافية والتاريخ الثقافي والسياسي والاجتماعي الراهن في عالمنا وفي العالم من حولنا، حتى وإن توهّموا أنهم في قلب العالم لمجرّد حدوث جملة مصادفات جعلتهم يجلسون في مقاهي العواصم الغربية. هم باختصار لم يغادروا ماضيهم، لأنهم يحملون معهم نوافذ خمسينيات وستينيات وسبعينيات وثمانينيات القرن الماضي ويطلون منها على العالم من حولهم. هم مطرودون من الذاكرة الحية، ومعلقون بذاكرة ميتة لا صلة لها بأجيال لم يعرفوها، أجيال لفظت ترهاتهم وبدأت تسخر منهم وهم يعودون إلى التسلل إليها عبر هذا الوسيط الإعلامي أو ذاك.
فكر حي وفكر ميت
الثقافة ليست وصفة يحتفظ بها أو يحتجزها هذا أو ذاك ممن ظلوا على قيد الحياة، أو وصفة يأخذها الأموات معهم، ولا هي امتياز جيل دون جيل. إنها ديمومة حية تواصل الحياة مع كل جيل يولد ويتعلم من الحياة ذاتها حتى وإن عز المعلم والمعلمون. والمفارقة هي في أن أصحاب أي فكر غير حي، ومثلته في مستهل هذه المقالة بالمكيال الصدئ وعدسة التصوير القديمة والمسطرة التي لا تصلح إلا لقياس مسافة الشبر أو الشبرين، يجاهدون للبقاء مناقضين بذلك قانوناً طبيعياً جلياً؛ وهو إن الحياة تتطلب فكرها الحيّ دائماً، ولا تفشل في العثور عليه. وسيجد أصحاب الفكر الميت أنفسهم، هم وما يلوكون في أي لغة كانت، خارج الخريطة بالفعل.
تعرف الأجيال الجديدة كيف تميّز بين فكر حي وفكر ميت
ولن يدهشنا بالطبع، أن نسمع الجموع الشعبية الآن تزهو وتتغنى بأقوال وأبيات وأغاني أناس من الماضي، شعراءَ ومقاتلين وحكماء، وتنأى بنفسها عن أقوال وأبيات "أحياء" التجديد الذين حشدوا الفضاء العربي بالضجيج زمناً؛ هؤلاء الذين يفترشون الآن قارعة الطرقات أو زوايا أروقة وكالات الاستخبارات وأذرعها الثقافية والإعلامية. لأن الأمر ليس أمرَ قديم وجديد، ولا أمرَ شاب وعجوز، بل هو أمر الرأس الحي قبل كل شيء. الإنسان حيٌّ بفكره وليس بعدد سنوات عمره. لهذا أستطيع ببساطة القول مثلاً إن شاعراً عاش قبل ألف عام هو أكثر حياة من شاعر يتقافز من منصة إلى أخرى في هذه الأيام، وأستطيع القول ببساطة أكثر، إن مفكراً تحوّل إلى تراب منذ أحقاب طويلة يمكن أن نجده يغذي نسغ أشجار الحاضر ويحضر في ثمارها، بينما يعجز من هو حيٌّ بحساب علم الكائنات الحية عن تغذية حبة قمح واحدة.
أعداء الحاضر هؤلاء، أصحاب المكيال الصدئ وعدسة التصوير القديمة والمسطرة القصيرة، هم أعداء ما جهلوا، وأحباب ما عرفوا. هم أصحاب نغمات الماضي، هم الماضويون على وجه الحقيقة، أما هذه الأجيال التي تعرف جيداً التمييز بين فكر حي وفكر ميت، حتى لو وضع هذا الأخير على رأسه عمامة مفتخرة أو قبعة من قبعات مليونير من برادفورد، فهي صديقة الينابيع الحقيقية، صديقة الخريطة العربية الآخذة بالعودة ولملمة شظاياها، صديقة ثقافة المقاومة المتنامية، والتي أخذت أصداؤها تتردد في كل جهات المعمورة.
* شاعر وروائي وناقد من فلسطين