- يكشف مايكل نيلس في "الدماغ المُلقَّن" عن استخدام النخبة العالمية للعلم في ترويض العقول وزراعة سرديات أيديولوجية لا تقبل النقاش، مستخدمًا الدعاية والتلاعب النفسي.
- يؤكد نيلس على أهمية مقاومة التلقين للحفاظ على حرية الفكر، مشيرًا إلى دور الإعلام والسرديات المتبناة في تصنيع الإنسان الخاضع وأهمية الوعي والتحليل النقدي.
تُشَنّ حربٌ متواصلة على أدمغتنا للقضاء على جهاز مناعتها بغية اغتيال فكرنا النقدي التساؤلي، وهدم الجسر الذي يصلنا بالذاكرة، وتحويلنا إلى أشخاص يتمّ تلقينهم كل شيء من أحرف الأبجدية والأفكار حتى مكوِّنات غذائهم. ويترافق هذا مع صناعة ثقافة متشابهة وتعميمها في أنحاء العالم من أجل طمس الواقع الحقيقيّ وترويج صورة عن واقع خيالي قائمة على حراسة الاستهلاك وأسواقه.
تُشنّ هذه الحرب علينا كل يوم وتدفعنا إلى الاستسلام وقبول صورة العالم بعد تزييفها. وفي خضم حياتنا اليومية، وبسبب شقائنا من أجل أن نعيش حياة كريمة -إن استطعنا إلى ذلك سبيلاً- لا نكون متنبهين لهذه الحرب رغم أنها تُشن علينا كل يوم من أجل مَسْخنا إلى كائنات خائفة، ممتثلة ومتماثلة، ومنسجمة مع قواعد السلوك السلطوية، التي تفرضها النخبة العالمية والتي تسخّر العلم لخدمتها.
هذا ما يقوله كتاب صدر حديثاً للعالِم الألماني مايكل نيلس بعنوان "الدماغ المُلقَّن: كيف تنجح في صدِّ الهجوم العالمي على حريّتك الذهنية"، عن "سكاي هورس" الأميركية.
مقاومة التلقين نضال يجب أن يستمر طيلة الحياة
تقام هذه المعركة ضدَّ أدمغة البشر على مستوى أكثر كونية اليوم، وتهدف "النخبة العالمية" من حربها عليها إلى القضاء على جهاز مناعتها، الذي يحافظ على سلامة تفكيرنا وقدرتنا على النقد والتفكيك والتشكيك والتساؤل والاستعانة بالتجارب الماضية من أجل حلول مستقبلية. والهدف من هذه الحرب هو ترويض الدماغ عن طريق قطع صلته بالذاكرة الشخصية وحشوه بما يدفعه إلى الامتثال وقبول الخضوع للقوى التي تحكم العالم عن طريق السوق وتحويله إلى ذهن مدجَّن مربوط برسن الأفكار السائدة. وكل هذا يتم باتباع استراتيجية ترغيب وترهيب وإقلاق وشراء بشكل مباشر أو غير مباشر وتلفيق خطاب وتسويقه في الإعلام كحقيقة.
يبدأ الكتاب بتعريف التلقين مُفصِحاً عن أنَّ هدف التلقين هو زراعة سرديّة أيديولوجية في أدمغة الناس، أو تقديم مُعتقد جديد لا يسمح بالنقاش ولا التشكيك. الهدف هو فرض انسجام وطاعة فكرية، والوسيلة لتحقيق هذه الغاية هي اختيار مُسيطر عليه للمعلومات، ودعاية مكثّفة وتلاعب سيكولوجي، وصولاً إلى فرض إجراءات قسريّة وتهديدات بالعقاب. وكلّما كان التلاعب الذهني ماهراً صار نظام التفكير الأيديولوجي المزروع منيعاً على الحجج النقدية والشكوك الداخلية. وينبّه نيلس إلى أنّنا يجب أن نفهم التلقين كهجوم ماكر على إنسانيتنا وشخصيّتنا، وفي النهاية على أغلى الأشياء ألا وهو حرية الفكر.
إن مقاومة التلقين نضال يجب أن يستمر طيلة الحياة، كي يحافظ المرء على حرية فكره وبحثه عن المعنى، كما يرى الفيزيائي وعالم الوراثة الجزيئية الألماني المتخصص في علم المناعة.
إلّا أنه لا طمأنينة في العالم، ولا يُسمح بها على الصعيد السياسي ولا الاقتصادي ولا الاجتماعي، ويشعر الإنسان في الدول الحديثة بأنّه إذا خرج على المعادلة الاقتصادية المفروضة عليه، والتي تحرس الوضع الاقتصادي القائم، خسر حقّه في الحياة داخل السور المؤسّساتي وأصبح متشرداً. فالخوف هو الفيروس الأخطر والأكثر انتشاراً في العالم، وهذا الخوف مُصنّع ومُعمّم والهدف منه القضاء على الفكر النقدي، وتصنيع الإنسان الخاضع للسلطة. هذا ما يحدث في العالم: ثمة قوى تمارس التلقين لإعادة تشكيل الدماغ والتلاعب به لتوجيهه في مسار الخضوع ومنع نشوء الفكر النقدي، وثمة إعلاميون وكتّاب من مختلف المشارب يسهمون في هذه العملية بسبب الوظائف وضرورة الخضوع لسياساتها.
قد يدرج كثيرون ما يذهب إليه العالم الألماني نيلس في كتابه في إطار نظرية المؤامرة، إلّا أنَّ ما يجري في العالَم يوضّح أن القوى المعارضة لـ"النخبة العالمية" المُسيطرة، لا تزال ضعيفة وغير قادرة على التدخل الفعّال في الأحداث، فقد يدمّرُ عدوانٌ وحشيٌّ مدينةً عن بكرة أبيها، كما يحدث الآن من حرب إبادة في غزّة، ورغم ذلك يظلُّ التدخل لوقف التوحش ضعيفاً، لأن السرديات الإعلامية التي تحدّث عنها نيلس في كتابه تستهدف أدمغة البشر وتنسف الصلة مع الذاكرة، وهكذا ينسى الناس سياق الأحداث، وخلفيّتها، وتاريخها. الأمر الذي يسهّل وصم الآخر الذي يموت في مجازر إبادة جماعية بأنّه إرهابي. وهذا ينسجم مع قاموس القوة التي تعمل على مدار الساعة للحد من التأثير الذي يمكن أن يرقى إلى تدخّل في الأحداث يكون أكثر فاعلية ويلقن كثيرين تصوراً عن العدوان ينسيهم أن ما يجري هو وليد سياق طويل يجب التنبّه إليه ودراسته لفهم حقيقة ما يحدث.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتحدة