كانت الحرب العالمية الأولى جريمةً كبرى ضدّ الإنسانية، أمّا الثانية فقد رسّخت فكرة أنَّ القتل والحروب والإقصاء والنزاع والعنف هي أمور متأصّلة وقديمة في النفس البشرية. وربّما يكفي أن نشهد التوتّرات الاجتماعية التي يعيشها عصرنا، وصعود الشعبوية، والاستقطابات السياسية، حتّى نتأكد من عُمق الهاوية التي وصلنا إليها.
ولكن من أين يأتي أصل هذه الكراهية؟ من أين يأتي هذا الازدراء التاريخي للطبقات الاجتماعية، والأجانب، والأعراق، والإثنيات، والمُعتقدات، والنساء؟ لقد تحدّث كثيرٌ من المفكرين والفلاسفة عن الأمر، فقد أشار داروين إلى الجينات الأنانية وإلى أنّ الحياة مُسابقةٌ من يفوز فيها يأخذ كلّ شيء.
أمّا عالم الأحياء البريطاني توماس هنري هكسلي (1825 - 1895)، فقد أشار إلى قانون الأقوى الذي يُسيّر الطبيعة. كذلك فعل المؤرخ والضابط الألماني فريدريك فون برناردي (1849 - 1930)، في كتابه "ألمانيا والحرب القادمة"، الذي نُشر قبل الحرب العالمية الأولى، حيث دافعَ بحماس عن الضرورة البيولوجية المُطلقة للنزاعات.
في كتابه "لماذا نكره"، الصادر حديثاً عن دار "ديوستو" الإسبانية، يُسافر الفيلسوف البريطاني مايكل روس (1940)، إلى جذور الصراع الاجتماعي، انطلاقاً من علم الأحياء التطوّري والأنثروبولوجيا وعلم الآثار، ويكشف عن المستوى العقلاني الذي وصلت إليها الكراهية البشرية، وليست الحربيَن العالميتين، والتوتّرات الاجتماعية التي نشهدها اليوم إلّا نماذج عن تعبيرات هذه الكراهية.
ينطلق الفيلسوف البريطاني في تحليله من أن نمط الحياة المستقرّة جلبَ أدّى إلى نزاعات التي لم تحدُث من قبل. لكن مع ذلك، يرى أنَّ نظرية التطوُّر كانت ضرورية لتهدئة المواقف الوحشية التي لا تزال تظهر دون توقّف.
ويحدّد روس في دراسته سرَّ الطبيعة المتناقضة للحيوان الاجتماعي، البغيض في الماضي، والتطوُّري القبلي، أي عندما تحوَّل الكائن الإنساني، منذ عشرة آلاف عام، من صيّاد إلى مُزارع، وهذا برأيه التغيير الذي مهّد الطريقَ للحضارة الحديثة، ولكن مع ذلك لا تزال عقولنا الحديثة تُؤوي عقول العصر الحجري.
ويكرّس الفيلسوف البريطاني مساحة مهمّة لشرح مفهوم الكراهية وتطوّره، مميّزاً بين مستويين منها: فردي وجماعي. بدأ ذلك كلّه، كما يرى روس، مع تطوّر الكائن البشري وانتقاله من الصيد، حيث كان آنذاك أكثر هدوءاً وسلاماً، ثم جاءت الزراعة، وصارت لديه ممتلكات، وهذا غيّر من طبيعته وجعله أكثر كراهية نحو الآخر.
ويخصص روس أيضاً فصلاً كاملاً للحروب، ومبرراتها، وطبقاتها، وعللها، حيث يقول: "في جميع النزاعات، المدنية أو الدولية، يكون الجهل هو الخطر الرئيسي. الجهل والخوف من الآخر والمجهول والغريب. كجنس بشري، تطوّرنا للاعتماد على التعاون بدلاً من القوة، وعلى التعلُّم الاجتماعي بدلاً من الغريزة. عموماً يتّسم البشر بالاعتماد المُتبادل القسري. أثناء وجود الإنسان في الجماعة، يتطوّر الإعجاب والتعاطف والثقة؛ أما عندما يتعلّق الأمر بالجماعة الخارجية، فهذا يعني تهديداً للوئام الداخلي واستقرار القبيلة".
وبعد هذا كله، يحاول روس الإجابة على التالي: لماذا نكره الأجانب أو المختلفين؟ "لدينا التزامات أكبر تجاه أفراد قبيلتنا منها إزاء الغرباء. لهذا يتم رؤية الأجانب أو المختلفين خارج الجماعة. قد يكون الحل الوحيد لمكافحة الكراهية، بكل معانيها وأشكالها، الثقافة وتعليم احترام الآخرين ومعرفة كيفية تفسير ذلك".
ويخلص روس في نهاية كتابه إلى النتيجة التالية: "من دون الآخرين لا يُمكننا الوجود. كلّنا ضروريون. لا يوجد شخص عبارة عن جزيرة معزولة. موت أي فرد يُقلّل منّا، لأننا متّحدون في الإنسانية".