مارك بلوخ.. في معنى الهزيمة الغريبة

07 يوليو 2021
(مارك بلوخ)
+ الخط -

عن "سلسلة ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت حديثاً النسخة العربية من كتاب "الهزيمة الغريبة: شهادة نُظّمت في عام 1940" للمؤرخ الفرنسي مارك بلوخ، بترجمة الباحثة عومريّة سلطاني.

يمثلّ الكتاب وثيقة كتبها مؤرّخٌ من خلال تجربته بوصفه ضابطاً في الجيش الفرنسي كان في الميدان عندما اجتاح جيش هتلر بلجيكا واحتل الأراضي الفرنسية، بينما كان الجيش الفرنسي يتراجع من دون خطة؛ ويشرح بلوخ فيها أسباب الهزيمة يومًا بيوم، وسط الفوضى التي ضربت القيادة العسكرية والضبّاط، قائلاً إن الهزيمة فكرية في الأساس لأنها حصيلة مواجهة بين خصمين ينتميان إلى عصرين مختلفين، فالاستراتيجيا الفرنسية العسكرية تنتمي إلى الحرب العالمية الأولى، بينما كان الجيش الألماني مواكباً كلّ التطورات الميدانية والمادّية.

الهزيمة فكرية في الأساس لأنها حصيلة مواجهة بين خصمين ينتميان إلى عصرين مختلفين

وفي سياق المقارنة بين الحربين الأولى والثانية، يقول المؤلّف إن "التاريخ عِلمُ التغيير، وإنه يَعلَم ويُعلِّم أنّ أيّ حدثين لا يتشابهان أبداً في ظروف حدوثهما. لكنّ المشكلة لا تتعلّق برجال الحرب فحسب، فالاستهتار تفشّى في كلّ المجالات؛ والعيب كان في النظام الذي كان من المفترض أنه ديمقراطي، إلّا أن النظام البرلماني كثيراً ما كان يقوم على الدسائس".

يضمّ الكتاب ثلاثة فصول. في الفصل الأول، "تعريف بالشاهد"، يعرّف بلوخ بنفسه، وهو اليهودي بالولادة من دون أن يُشعره ذلك بفخر أو بخزي، لا يستدعي أصوله اليهودية إلّا حين يتعلّق الأمر بمواجهة شخصٍ معادٍ للسامية، وهو رفضَ بين الحربين الكونيتين الاستفادة من تشريعات تُعفيه من الخدمة العسكرية في الجيش الفرنسي، وبقي في عام 1939 نقيباً، وهي رتبة رُقّي إليها في عام 1919، بُعيد مشاركته في الحرب الأولى. أوكَلت إليه هيئة الأركان العامة وظيفة ضابط ارتباط مع القوّات البريطانية، ثم أصبح بين ليلة وضحاها الآمر الناهي في مستودعات الوقود "في أحد جيوشنا الأكثر تجهيزاً بالآليات على الجبهة بأكملها"، كما يقول. وعاش الانسحاب الفرنسي من جنوب مدينة ليل، وتدمير مستودعات الوقود.

غلاف الكتاب

في الفصل الثاني، "شهادة مهزوم"، يقول المؤلّف إنه لا ينوي هنا كتابة تاريخٍ نقديّ للحرب، ولا حتى تاريخ الحملة العسكرية في الشمال، "فأنا لا أملك الوثائق الضرورية، ولا الكفاءة التقنية للقيام بذلك. لكن، من الآن فصاعداً، ستكون ثمّة ملاحظات تتّسم بما يكفي من الوضوح بحيث لا يمكن التردّد في الإشارة إليها". يتحدّث بلوخ عن أخطاء كثيرة ومختلفة تراكمت آثارُها، "فقادت جيوشنا إلى الكارثة، غير أن ثمة تقصيراً كبيراً يهيمن عليها جميعها. فقادتُنا، أو الذين تصرّفوا باسمهم، لم يُجيدوا فهم هذه الحرب. وبعبارة أخرى، كان انتصار الألمان فكريًّا في الأساس، وذلك ما يشكِّل ربّما أخطر ما في هذا الانتصار".

يرى بلوخ في الفصل الثالث، "فرنسي يفحص ضميره"، أن ليس من هيئة مِهنية، في أيّة أمة من الأمم، تُعتبَر مسؤولة بالكامل عن أفعالها؛ إذ يتطلّب تحقيق مثل هذا الاستقلال الأخلاقي أن يكون التضامن الجماعي على قدر كبير من التلاحم. برأيه، استعملت قيادات الأركان في عملها الأدوات التي وفّرتها لها البلاد وعاشت في مناخ نفسي لم تكن مسؤولة عن تكوُّنِه. كانت هي نفسها من صنع الأوساط الإنسانية التي انتمت إليها، ونتاجَ الشروط التي سمح بها المجتمع الفرنسي، "لذلك، لن يبقى جنديٌّ نزيه مكتوف اليدين خلال الهزيمة من دون أن يعتبر ذلك السكوت بمثابة خيانة بحق الوطن؛ لذلك كان أن بذل كل ما بوسعه ليذكر بحسب تجربته الشخصية، ما ظنّ أنها رذائل القيادة العسكرية وما ارتكبته. فالإنصاف يقضي بأن تتعدى شهادة الجندي هذه إلى شهادة مواطن فرنسيّ يفحص ضميره".

برأيه، يتساوى جميعُ البالغين أمام التهديد الذي يواجهه الوطن والالتزامات التي يفرضها واجب الدفاع عنه، وإنّ لَمِن سوء التفاهم اللافت أن يُعترف لأيٍّ منهم، كائناً من كان، بحصانة أو امتياز ما. ما هو مفهوم كلمة "مدني" في زمن الحرب؟ هو شخص يُعفى مَن حمل السلاح بفعل سنّه أو صحّته وأحياناً مهنته التي قد تُعتبر ضرورية جدّاً لمهمّات الدفاع. فأن يُمنع المرء من خدمة بلاده بالطريقة التي يتمنّاها كلّ مواطن هو أمرٌ يشكِّل كارثة ولا شيء يبرّر أن يتهرّب المرء من مواجهة الخطر المشترك. 
 

المساهمون