لاستذكار عملية "ليلة الطائرات الشراعية"، في هذه الأيام بالذات، خصوصيةٌ فريدة؛ فهبوطُ المقاومين صباحَ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي على المستوطنات الاستعمارية المتاخمة لـ غزّة، وأَسْرهم عسكريّين من جيش الاحتلال، وتدميرهم دبّاباته الرابضة عند الحدود، أعاد إلى الأذهان الكثير من العمليات الفدائية الفلسطينية، ولكنّ حضور المظلّات والطائرات الشراعية بشكل خاصٍّ في "طوفان الأقصى"، ذكَّرَ بقوّة بتلك الليلة التي تُصادف، اليوم السبت، الخامس والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر، ذكرى مرور ستّة وثلاثين عاماً عليها.
حُدّد مُنطلَقُ العملية بدقّة؛ تلّة من تلال وادي البقاع في لبنان، في حين تولَّى التنفيذ أربعة فدائيّين من "الجبهة الشعبية - القيادة العامة"، وهم: فلسطينيّان لم تُحدّد هويّتهما إلى اليوم، والسوري خالد أكر (1967)، والتونسي ميلود بن ناجح (1955)، اجتمعوا معاً على وِجهة واحدة هي فلسطين.
حضرت العملية بقوّة في الأغنيات الشعبية كما تناولها الفنّانون والكتّاب
لم يكُن الإنزال خلف خطوط جيش الاحتلال الإسرائيلي، كما رُسمت الخطّة، أمراً سهلاً من حيث الإجراء العسكري المُباشر، فراداراتُ الصهاينة كانت مزروعة على طُول الحدود. وصحيحٌ أنّ الطائرات الشِّراعية وسيلة ناجعة في هكذا مُواجهات، إلّا أنه يجب الحرص فيها على التحليق بمستوى مُنخفِض، وإلّا اكتُشِف أمرُها. ولو تجاوزنا الحديث عن الجانب العسكري إلى السياسي منه، فسنرى أنّ الجنوب اللبناني، عام 1987، كان ما يزال مُحتلّاً من قبل "إسرائيل"، وقد أُنشِئَت فيه مناطق عسكرية عازلة مُتعامِلة مع الاحتلال، تفصل بين لبنان وفلسطين المحتلّة.
عند المساء حلّق الطيّارون الأربعة بطائراتهم الخفيفة، لكن لصعوبات تتعلّق بشدّة الرياح وتصميم الطائرة، هبطت اثنتان منها داخل الحدود اللبنانية، بينما تحطّمت طائرة بن ناجح في المنطقة العازلة، حيث تُسيطر "قوّات جيش لبنان الجنوبي" التابعة للاحتلال. أمّا خالد أكر فنجح بتجاوُز منطقة الأحراش، وتفادى الرادارات الصهيونية، بسبب حجم الطائرة الصغير وتحليقها الصامت، ووصل إلى منطقة الهدف الذي تجلّى بوضوح في "معسكر غيبور"، والذي كان يضمّ مجموعة من القوات الخاصة الصهيونية.
هبَط أكر بهدوء، حاملاً معه سلاحه الخفيف، قبل أن يتحرّك نحو بوّابة المُعسكر، ثم اشتبك من المسافة صفر مع جنود الاحتلال مُردياً ستّة منهم قتلى على الفور، فضلاً عن آخرين أصابهم بجروح متفاوتة. صمدَ الفتى العشريني لساعات وهو يُقاتل في المعسكر قبل أن يستشهد، لكنّه قبل تنفيذ العملية، كان قد ظهر في تسجيل جمَعه مع رفيقه التونسي يؤكّدان فيه أن قضية فلسطين تعني العرب جميعهم، وأنّ النسيان والتخاذُل لن يكون مصيرها أبداً.
أُطلِق على العملية اسم "قبية" نسبةً إلى القرية الفلسطينية التي ارتكب فيها الصهاينة مجزرة عام 1953، واستُشهد فيها 74 فلسطينياً من المدنيين العُزّل، لكنّ أهميتها تكمن في كونها أتاحت التفكير بمخطّط هجومٍ أوسع يُستعان فيه بالطائرات الشراعية. كذلك ظلّ اسما منفِّذَيها أكر وبن ناجح حاضرَين كعلامة فارقة في تاريخ المقاومة الفلسطينية والعربية، ومن ذلك ما كتبه الشاعر العراقي الراحل مظفّر النواب في قصيدتَه التي حملت عنوان "خالد أكر"، كما صارت الطائرة الشراعية، وحكاية العملية من خلفها، رمزاً عند فنّاني الأغنية الشعبية، وكذلك مُصمّمي مُلصقات الثورة والانتفاضة.