إن لم نصبح بعد كائنات افتراضية، ففي سبيلنا إلى أن نكون، ولن نحتاج بعدها إلّا إلى قدْر ضئيل من الواقع، يكفينا لتناول الطعام واحتساء الشراب، عداه قد لا يلزمنا شيء آخر، إلّا إذا خاطرنا بالموت جوعاً وعطشاً. فطلائع الحياة الافتراضية جليّة، ونحن مُقبلون على العمل من المنزل، سواء في شركة، أو مؤسّسة قد لا نراها، أو لا تكون موجودة، فرَبّ العمل ورؤساء الأقسام يعملون مثلنا من بعيد، وسوف نتّصل مع رفاق العمل والأصدقاء والمعارف بالبريد الإلكتروني أو "الماسنجر" و"الواتس"، ونطّلع على أخبار العالم من محطّات الأخبار العالمية. قد تكون الأخبار زائفة، فالأخبار يمكن صناعتها من دون أن تحدث، ما يدرينا؟ مثل الزلازل والأعاصير نُشاهدها، لكن هل حدثت؟ إنها صور متحرّكة، باتت إمكانية تحريك الأمواج متيسّرة، مثل رفع عدّاد ريختر: مجرّد خبر، والباقي صوَر.
ولنعدْ إلينا نحن، أي إلى الكائن الافتراضي الذي أصبحناه، والذي كنا نتحدّث عنه، كي لا نغمط العالم الافتراضي حقّه من التعريف؛ إنه عالم خصب، يستطيع هذا الكائن التجوّل فيه، فيزور المتاحف، ويقضي أوقات الفراغ في السينما والملاهي، أمّا العطلات ففي المنتجعات المشهورة، مع التزلّج على الجليد من دون مغادرة منزله، أو حتّى كرسيه. وإذا لم يكن متزوّجاً، فبوسعه قضاء وقت ممتع مع فتاة أو سيّدة في علاقة تدوم أو لا تدوم طويلاً، من دون أن يُثقل نفسه بزواجٍ وأولاد، أو حتّى بصداقة تتطلّب الوفاء.
في المجتمع الافتراضي لا نظفر إلّا بديمقراطية افتراضية
هذا الكائن، المحتمل جدّاً، سيرتبك في حال واجه الواقع في المقهى أو الحديقة مثلاً؛ لن يعرف كيف يتصرّف، كانت الشاشة تفصل بينه وبين الآخر، لكن في الشارع لا شاشة، فكيف يُبعده عن نفسه، أو يلغيه بكبسة زر؟
كي يستمرّ العيش على هذا المنوال، لا بدّ من انقلاب الأشخاص الحقيقيّين إلى أشخاص افتراضيين؛ فالحقيقيّ، كي يصبح حقيقيّاً في عالم هذا الكائن، يجب أن يشمله الافتراض هو الآخر. بمعنى، هذا ليس الواقع... لكنّه الواقع.
أوّل ما يشير إليه العالم الافتراضي هو الانفصال عن الواقع، وهو ما تحبّذه الحكومات الرقمية، إذ يعني أنه عالم مراقَب جيّداً وبشكل دقيق. فمثلاً، في بعض مقاطعات الصين، هناك جهاز مركزي يُدعى "الدماغ"، يراقب تحرّكات المواطنين، من دفْع الفواتير إلى شراء السلع، فرمي الزبالة في أوقات معينة. تطبيق "الدماغ" يتلاءم مع ما تنشده حكومات العالم كلّها دون استثناء، فالمعلن، والمعروف ــ وإن شُكّك فيه ــ أنّ جمع البيانات عن المواطنين هو للاستفادة منها في مكافحة الجرائم وعلى رأسها الإرهاب؛ هذا ما تتاجر به الحكومات: التهديد الإرهابي. والمتوقَّع استيراد "الدماغ" من قِبَل حكومات العالم التي لا تملك هذه التقنيات للسيطرة على شعوبها، ومنطقتنا الأكثر طلباً له قبل الغِذاء والدواء.
سيواجه "الدماغ" بعض العوائق في بُلدان الديمقراطيات؛ فإذا كانت الصين تبرّر استخدامه بالفائدة التي ستعود على المواطن المطيع بشهادة حسن سلوك، وتسجيل نقاط لصالحه، تشجيعاً له على المزيد من الطاعة، يكافئ عليها بأُعطية مادّية أو بقالب تورتة في عيد ميلاده. بينما لا تستطيع الديمقراطيات استخدام هذه الحجّة، وإنما الترويج لها على سبيل حماية مواطنيها من "الإرهاب الإسلامي". الصين لا تحتاج إلى هذه الحجّة بعدما طوّقت "الإرهاب" الإيغوري، وأنهت ــ على حدّ زعمها ــ الإسلام من خارطة الصين. أمّا الغرب، فلن يتخلّى عن الإسلام كمتَّهَم، إلّا إذا أفلح الرّوس في استعادة الإمبراطورية القيصرية، وربما البلشفية، فـ"الكي جي بي" ما زالت تمارس عملها بتسميم المُعارضين.
الخلاصة؛ نحن في عالم يمكن التلاعب به، لن نظفر ــ بعد الانتساب إلى المجتمع الافتراضي ــ إلّا بديمقراطية افتراضية، ما دامت الديمقراطيات سيشملها الافتراض. كذلك الأعداء والأصدقاء؛ كلّ شيء يمكن تحويله إلى افتراض، بينما القمع لن يكون افتراضيّاً.
ربما تشاءَمنا، لكنّ العِلم متفائل؛ لديه وجهة نظر تقول: ليس الدخول إلى العالم الافتراضي انفصالاً عن الواقع، كما لا يمتّ بصِلة إلى الزائف والوهمي والخيالي؛ إنه عالَم مشبع بالاختيارات، بما يُغني الإبداع ويفتح آفاق المستقبل. إنه تحوُّلٌ في نمط الوجود، إلى وجود أكثر ثراءً.
فد يكون هذا صحيحاً، لكنْ ماذا عن الحكومات: هل تدع هذا العالم كما يتخيّله العُلماء؟
* روائي من سورية