يمتاز الشاعر الإسباني فديريكو غارثيا لوركا براهنية وحضور قوي، رغم السنوات التي مرّت على رحيله، ربما لكونه هو نفسه قد تغنّى بالموت مراراً، علاوةً على أنّه كان من أوائل ضحايا الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال فرانكو ضدّ الجمهورية (1936)؛ تلك اللحظة الفارقة في تاريخ إسبانيا التي سجّلت موقفاً أساسياً، مفادُه أنّ ضحايا أيّ نظام دكتاتوري هُم المثقّفون والمفكِّرون والكُتّاب والشعراء، الذين إمّا يُفرَضُ عليهم الصمت والعزلة وتُقيَّدُ حرّيتُهم في التفكير والتعبير، أو يدخلون متاهات المنفى ومحنة السجون، أو الأحكام الجائرة بالإعدام والقتل، مثلما كان حال لوركا الذي تُشعل الشموع سنوياً تخليداً لذكرى رحيله في 18 آب/ أغسطس 1936.
وقد رثاه أنطونيو ماتشادو، حينئذ، بقصيدة، وكأنّها تستشرف مصير ماتشادو نفسه، حين سيدهمُه الموت في منفاه بكوليور جنوب فرنسا. يقول في مرثيّته للوركا، المعنونة بـ "الجريمة كانت في غرناطة":
1
الجريمة
شُوهد وهو يمشي بين البنادق
في شارع طويل،
وهو يخرج إلى الحقل البارد،
بعدُ ما تزالُ نجومُ الفجر.
قتلوا فديريكو
لمَّا كان الضوء ينبثق.
فصيلة من جلّادين
لم يجرؤوا على النظر إلى وجهه.
كلهم أغمضوا عيونهم.
وصلّوا: حتّى الإله لن يُخلّصك!
سقط فديريكو مَيِّتاً
- دمٌ على الجبهة ورصاص في الأحشاء -.
… ففي غرناطة كانت الجريمة
اعلموا - مسكينة غرناطة - في غرناطته!
2
الشاعر والموت
شوهد وهو يمشي وحيداً معه،
دونما خوف من مِحَشِّهِ.
-والشمس قد كانت في برجٍ وبُرج آخر. والمطارق
على السندان، سندانٍ وسندانٍ آخرَ للكور-.
كان فديريكو يتحدّثُ
مُغازلاً الموت. وكان الموتُ يستمع.
"لأنني البارحة في أشعاري، يا رفيقي،
كان صدى راحتي يديك النحيلتين يُدوِّي،
وَهَبْت الجليد لغنائي، والحَدَّ القاطعَ
لمنجلكَ الفضيِّ لمَأساتي،
سأُغنّي لك الجسدَ الذي ليس لديك،
العيون التي تفتقدُها،
شعركَ الذي كانت الريحُ تهزُّهُ،
الشفاه الحمراء حيث كانوا يقبلونكَ...
اليوم مثلما بالأمس، أيّها الغجري، يا موتي،
كم هو جيد أن أكون معك وحدك،
عبر هذه الأجواء لغرناطة، غرناطتي!"
3
شُوهدا وهما يمشيان...
انحتوا، أيّها الأصدقاءُ،
مِنْ حَجَرٍ وحُلمٍ، في قصر الحمراء،
قبراً للشَّاعرِ،
فوق نبْعٍ حيث سيبكي الماءُ،
ويقولُ إلى الأبد:
الجريمة كانت في غرناطة، في غرناطته! للوركا.
هذه القصيدة ترثي لوركا بعد انتشار خبر اغتياله، وهي من أجمل القصائد التي خلّدت اللحظة الغادرة للموت الذي تعرّض له شاعر غرناطة. لكنّ قراءتي لمقاطع أخيرة من قصيدة أُخرى للوركا، غمرتني بقوّتها الاستشرافية التي جعلت الشاعر يتنبّأ بما سيحدث له، فضلاً عن جماليتها من الناحية الغنائية. قد لا تكون غاية لوركا في القصيدة أن يرثي ذاته، ولا أن يتحدّث عن القتل بمعناه الحقيقي، بل ربما استعمله كمجرّد استعارةٍ، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن القصيدة كانت مندرجة ضمن ديوانه الشعري "شاعر في نيويورك"، لكن بالنظر إلى سياق الأحداث التي وقعت بعدئذ، في حادثة الاغتيال، بعد اختطافه واقتياده إلى مشارف غرناطة، ليُعدَم رمياً بالرصاص بين بيثنار وألفاكار.
وبعد عمليات متعدّدة للبحث عن جثمان الشاعر، فشل الجميع كلَّ مرّة في العثور على جثّته، ما يجعل محكي القصيدة أشبه باستشراف أو نبوءة، وهو أمر مثير للإعجاب حقاً. هي مجرّد مصادفات أن يحكي شاعرٌ مصيره ويرثي نفسه دونما وعي منه بذلك، لكنّها مصادفات رائعة لا تحدث دائماً، وإن لم تكن نادرةً جدًّا، فكلُّ شاعر يحاول أن يثير موضوعة الموت باعتباره حدثاً وجودياً يفرض ذاته على الكتابة كشكل من التعبير، بل وعلى المقاربات الفلسفية. فالوجود مرتهنٌ بحياة الكائن مثلما هو مرتهن بنفي الحياة، أي بالموت باعتباره لغزاً.
وصلت القصيدة إلى محقّقِ آخر دواوينه فأنقذها من الضياع
وقصيدة لوركا لم تجتذب القرّاء لأنها لم تُنشر في ديوان "شاعر في نيويورك"، فقد أبعدها لمّا كان بصدد نشره، مثلها في ذلك مثل العديد من القصائد الأُخرى، فقد كان ينتقي ما ينشره في دواوينه من بين القصائد التي يكتبها، مُخضعاً الاختيار لمعايير دقيقة. لكنّه رغم ذلك لم يكن يدمّر المسوّدات التي تحفظ قصائده غير المنشورة، هكذا وصلت هذه القصيدة إلى يد محقّق أعمال الشاعر الكاملة ميغيل غارسيا بوساداس، الذي أنقذها من الضياع، وأعاد الحياة إليها وإلى قصائد أُخرى كانت طيّ النسيان.
قصيدة لم تُنشر خلال حياة لوركا، لكنها تكشف وجهاً متميّزاً في المقاطع النهائية التي تبدو استعادةً للذات في الموت، أو استعادة للحظات الموت قبل حدوثه.
من أشعار العزلة في "جامعة كولومبيا" بنيويورك:
حكاية ورقصة العجلة للأصدقاء الثلاثة
إنريكي
إيميليو،
لورانس.
كانوا ثلاثتهم متجمّدين:
إنريكي بعَالَمِ الأسِرَّةِ،
إيميليو بِعَالَمِ العيون وجراح اليدين،
ولورينثو بعالم الجَامِعات بلا سقوفٍ.
لورينثو،
إيميليو،
إنريكي.
الثلاثة كانوا مُحترقين:
لورينثو بعالم الأوراق وكُرَاتِ البلياردو.
إيميليو بعالم الدم والدبابيس البيضاء،
وإنريكي بعالم الموتى والصُّحُفِ المهجورة.
لورينثو،
إيميليو،
وإنريكي.
كانوا ثلاثتهم قد دُفِنُوا:
لورينثو في حضن فلورا،
إيميليو في شراب الجنّ الجاسئ الذي يُنسَى في القدح،
وإنريكي في النملة، وفي البحر وفي العيون الفارغة للطير.
لورينثو،
إيميليو،
وإنريكي.
كانوا ثلاثتهم في يدي
ثلاثة جبال صينية،
ثلاثة ظلال لحصان،
ثلاثة مشاهد للثلج ولكوخ من الزنابق
عبر أبراج الحمام حيث يصير القمر مسطّحاً أسفل الديك.
واحد
وواحد
وواحد.
كان الثلاثة مُحَنَّطِينَ،
مع ذباب الشتاء،
مع المحابر التي يتبوّل فيها الكلب ويُحتقر الوغد،
مع النسيم الذي يجمّد قلب كلّ الأمهات،
من الأنقاض البيضاء لكوكب المشتري حيث يتناول السُّكارى الموت كوجبة في المساء.
ثلاثة
واثنان
ثم واحد.
رأيتهم يتيهون وهم يبكون ويغنُّون
لأجل بيضة دجاجة،
لأجل الليل الذي يُبدي هيكله العظميَّ من تبغ،
لأجل ألمي المليء بالوجوه وشظايا القمر الحادّة،
لأجل فرحتي بالعجلات المسنّنة والسياط،
لأجل صدري الذي عكّرته الحمَاماتُ،
لأجل موتي المُقفِر سوى من عابر واحدٍ مُخطِئٍ.
كنتُ قد قتلتُ القمر الخامس
وكانت الينابيع تشربُ المياه عبر المروحات والتصفيقات،
حليب دافئ تنغلق عليه المواليد حديثة العهد
كانت تلوِّحُ بالورود في ألمٍ طويلٍ أبيضَ.
إنريكي،
إيميليو،
لورينثو.
ديانا قاسية.
لكن أحياناً يكون ثدياها غائمين.
يمكن أن ينبض الحجر الأبيض بدم الغزال
ويمكن للغزال أن يحلم عبر عيني حصان.
عندما غرقت الأشكال الخالصة
تحت صرخة الأقاحي،
أدركتُ أنهم كانوا قد قتلوني.
طافوا المقاهي والمقابر والكنائس،
فتحوا البراميل والدواليب،
حطّموا ثلاثة هياكل عظمية لنزع أسنانها الذهبية.
لكنهم حتى الآن لم يجدوني بعد.
ألم يجدوني؟
لا، لم يجدوني.
لكن، عُلِمَ أنَّ القمرَ السَّادِسَ هرب إلى أعلى النبع،
وأن البحر تذكَّرَ، بغتَةً!
أسْمَاءَ كُلِّ غرقاه.
* شاعر ومترجم من المغرب