يفترض العديد من علماء التاريخ والأنثروبولوجيا أن كشوفات عصر ما قبل التاريخ تستدعي تغيير النظرة التي كرّسها الغرب حول الحداثة بوصفها منتجاً أوروبياً، إذ إن "الحداثة السلوكية" هي وصف دقيق لتطوّر الفنون لدى الإنسان الأول، خاصة في ما تركه من نقوش وطريقته في تزيين جسده.
مسألة ألقى الضوء عليها الباحث التونسي لطفي بلهوشات في محاضرته الافتراضية "الحضارة القبصية: عصر الفن والإبداع"، التي نظّمتها "وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية" في تونس العاصمة الثلاثاء الماضي، وتحدّث خلالها عن الأوابد التي تعود إلى أكثر من عشرة آلاف سنة، ولا تزال شواهد منها موجودة بالقرب من مدينة قفصة التونسية.
توقّف المحاضر عند عام 1875 مع العثور على أولى اللقى على يد عالم الآثار جوزيبي بيلوتشي الذي قام ببعثة تنقيب في الجنوب التونسي، وكانت قطعاً من الصوّان، وصولاً إلى سنة 1909 حيث تخلّق وعي حيال تلك الحقبة التاريخية، إذ سمّى الأركيولوجي جاك دي مورغان ما وجده من شواهد بـ"الحضارة القبصية"، وأبرزَ ميزاتها في سلسلة مقالات نشرها آنذاك، إلى جانب دراسة أصدرها إرنست غوستاف غوبيرت حول موقع المطقع شمال مدينة قفصة.
اكتُشفت آثار القبصيين في الجنوب التونسي عام 1875
وفي مرحلة لاحقة، وضع عدةّ باحثين فرضيات حول ظهور هذه الحضارة ونشأتها والتغيرات التي طرأت عليها حتى العصر الحجري القديم، ما أدى إلى تصنيفها ضمن مجموعة تفرّعات بحسب تسلسلها الزمني تعمّقت حولها الأبحاث والنظريات في مرحلة ثالثة، لتُمهّد إلى دراسات متعدّدة التخصّصات بيّنت الخصائص الاجتماعية والاقتصادية والتقنية والفنية للقبصيين، والتي تتواصل حتى اليوم.
وأوضح بلهوشات أن الحضارة القبصية قامت في شرق الجزائر وتونس خلال العصر الهولوسيني الذي تميّز بمناخ أكثر رطوبة، وساعد في انتشار الغابات بعد أن ساد مناخ جليدي قاس جداً في الفترات السابقة، وساهمت هذه الظروف المناخية في استقرار مجموعات بشرية وتوزّعها في مناطق مختلفة من شمال المغرب الكبير.
ووفق الدراسات الحديثة حول آخر الاكتشافات، والقراءات الجديدة للاكتشافات القديمة، فقد تأسّست الحضارة القبصية السفلى أو النمطية في جنوب ووسط تونس خلال الألف العاشر قبل الميلاد، قبل قيام الحضارة العليا على الساحل خاصة في مدينة هرقلة وبعض مدن الداخل بدءاً من منتصف الألف الثامن قبل الميلاد وحتى منتصف الألف السابع قبل الميلاد؛ حيث تمدّد القبصيون في استقرارهم وبدأوا في تدجين الحيوانات، وتطورت صناعتهم للأدوات العظمية التي تشبه ما أنتجته حضارات العصر الحجري الحديث.
اعتمد الإنسان القبصي على الصيد بشكل أساسي لحيوانات الثيران والغزلان إلى الأرانب البرية التي عاشت في غاباتهم، بحسب بلهوشات، موضحاً أنه استخدم الحجارة التي صقلها لصناعة السهام، والتي وثّقتها النقوش المكتشفة، حيث تظهر القوس في يديه وإلى جواره حيوانات تبدو مدجّنة وليست برّية، ومنها الخرفان والماعز، كما جمَع الثمار وخاصة من شجرة الصنوبر الحلبي وكان يخزّنها في أماكن محدّدة لا تزال تُستخدم لليوم في طبخ عصيدة منها في بعض المناطق التونسية، وكذلك للحلزونيات التي اقتات عليها.
ولفت إلى امتلاك الحضارة القبصية العديد من الأدوات وفق نشاطاتهم المتعدّدة، ما يدل على وجود مجتمع معقّد في بنائه، مثل الأواني الفخارية من قدور وقوارير كان يوضع فيها اللحم، كما منحت معتقداتُه قيمة خاصة للمدافن من مظاهرها بروز طقوس جنائزية توحي بإيمانه بوجود حياة بعد الموت، وأيضاً احترامه لكائنات معينة كالنعام الذي حاز مرتبة القداسة، إذ لم يكن يتناوله في طعامه، واستُعملت قشور بيض النعامة في صناعة الأواني في قوارير بيضوية الشكل وكؤوس وأكواب وصحون.