استمع إلى الملخص
- في العصر الحديث، يُبرز الشعر دوره في مواجهة التحديات مثل سقوط الإمبراطوريات والصعود التكنولوجي، حيث يمد البشر بالشجاعة للذهاب أبعد من حدود الجسد وأعمق من سطحية السائد.
- يُكرم النص الشعراء الذين يواجهون الصدمات التاريخية، مثل لويز غلوك وهان كانغ، ويُعتبر فوزهم بجوائز نوبل محاولة لإعادة الاعتبار لإنسانية العالم.
جاءني هذا السؤال من نفْس قلقة تعيش بين سرب شموع وسرب فراشات، فتنتمي ولا تنتمي لأرواحهما سريعة الهلاك دفعة واحدة بجرّة جناح أو ومضة عتمة.
تزاحمت سبُل البحث وربّما حظوظ العثور على إجابة لهذا النوع من أسئلة التداوي من القلق بهاجس الفناء. غير أنّني شعرتُ بالحاجة لقليل من اللعب علّني أجد مفرقاً أخاطر فيه بالسير في هوى الشعر، وإن كنتُ وحيدة في غابة الأشواك، بين حريق وحرير.
كأنّ السؤال مزحة أو نوعٌ من أنواع السخرية السوداء. وإلّا كيف لشاعرٍ أن يقبل بمثلِ هذا السؤال الذي يحاول عبثاً أن يمدَّ مخالبه على أخيلة الشعر بمخاطف الفلسفة أو السياسة على حساب الإلهام الشعري والوجد الإنساني؟
ولكن باختصارٍ مُخلٍّ لا يخلو من الخيانة، أرى شخصيّاً كعاشقة وشاعرة أنّه إذا كان الماء مكوِّناً وجودياً لكلّ شيء حيّ، فإنّ الشعر مكوّنٌ وجداني وجمالي لكلِّ ضميرٍ حي ولكلّ كائنٍ نابض. فقشعريرة الشتاء شعر، وحفيف الأوراق البهارية كتاب الخريف الشعري، ووشوشة الفراشة لعرائش العنب شعر، ونداء ماما شعر، ومدات الشوق شعر، وحالات الحنين شعر، ورائحة الخبز كرائحة الحبر تَقطرُ إيقاعاً شعريّاً لا يُمسّ بالحواس.
أمّا تفحّم جثث الأطفال، ولوعة الأمّهات، وقهر الرجال، والعجز، والجبن العامّ في الحروب من طرف واحد، فتلك الحالة اللاإنسانية الكارثية الوحيدة التي لا يمكن التداوي من وحشيّتها إلّا بسحر الشعر، وإن وهماً أو خيالاً.
دور إلهامي يمدّ البشر بشجاعة التمرّد على الأدلجة
صحيحٌ قد يكون هناك حسّ عامّ بحُكم فشل العالم في الارتقاء على التحيّزات والتسلّط، مع فقدان حسّه الجمالي والعدلي وهو في أوجّ تقدّمه التقني، وهو حسُّ يوحي بتراجع حضور الشعر في الفضاء العام على مستوى عالمي، إلّا أنّ الدور الذي يضطلع به الشعر في الوقت الراهن؛ وفي رهاب هذه اللحظة العالمية المشتِّتة بين سقوط الإمبراطوريات الجديدة، وانكسار شعوب عتيدة، والصعود التكنولوجي المدجَّج باحتمالات يفوق تغوّلها الخيال العلمي في أقصى شطحاته، هو في رأيي الدور نفسه الذي اضطلع به الشعر منذ فجر الوجود الإنساني، حين كان القلق الإنساني لا يتجاوز البحث عن مرعى كلأ وقطرة ماء. وهذا هو دور الشفاء بالشعر من البشاعات والآلام والصراعات على هذه الأرض، التي ليست من يومها إلى اليوم سوى شهاب في مهبّ النظام الكوني.
هذا، بطبيعة الحال، مع وجود تنويع على ذلك الدور يتناغم مع طبيعة العصر ويتمثّل في "الدور الإلهامي للشعر" الذي يستطيع أن يمدَّ البشر بالشجاعة للتمرّد على الأدلجة والقولبة والتشابه والتكرار والتفاهة والظلم والحروب، ليتمادوا في الذهاب أبعد من حدود الجسد، وأعمق من سطحية السائد والرائج والممكن والمفروض.
إنّ الشعر، ضمن هذا المعنى، هو منشود الخلاص، وهو طاقة القلق المنتج الذي لا شفاء له ولا ينبغي التداوي منه.
وربّما يكون حصول الشاعرة الأميركية لويز غلوك على "جائزة نوبل للأدب"، قبل ثلاثة أعوام، في عقر دار الإمبريالية العالمية بشكلها الليبرالي المتطرّف الجديد عن شعر يستعيد سماحة القبور، ويعيد الاعتبار لهوامش الإمبراطوريات التي لا تظهر على محرك غوغل، وكذلك فوز الكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ بالجائزة نفسها لهذا العام، عن ما قيل فيه "نثرها الشعري المكثّف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية"، تحديداً في هذه اللحظة التي تشيّئ هيمنة الثقافة الاستهلاكية وطغيان الطوفان التكنولوجي كلَّ حسّ إنساني وتشيع ثقافة الرخاوة والإرهاب معاً، ربما يكون نوعاً من محاولة ردّ الاعتبار لإنسانية العالَم بتلك الريشة المرهفة التي اسمها الشعر.
وفي هذا يصحّ ما كُتب قبل قرابة قرن من الزمان بأنّ قراءة قصيدة هو ما تحتاجه الروح للحصول على حصّتها اليومية من جرعة الفلسفة والجمال ومن ملح الحلم وومضة النبوءة.
وأختم بما كتبه الشاعر روبرت فروست إلى لويس إنترمير في كلمة مرشّحة للخلود، حيث قال عن ماهية الشعر: "إنّ القصيدة تبدأ بغصّة في الحلق، يصاحبُها إحساسٌ بالذنب مريع يُفسده حنين للوطن وولع بمعاودة الحبّ وعدم الكفّ عن ارتكاب الحياة".
* شاعرة وكاتبة وأكاديمية من السعودية