تقف هذه الزاوية مع كاتب من العالم في أسئلة عن انشغالاته الإبداعية وجديد إنتاجه وبعض ما يودّ مشاطرته قرّاءَه. "أكتب أدباً ملتزماً ضمن مسعى للمساهمة في نسيج العالم من خلال التنوُّع"، يقول الشاعر والباحث الكورسيكي في لقائه مع "العربي الجديد".
■ كيف تُقدّم المشهد الأدبي والثقافي في بلدك لقارئ لا يعرفه؟
- بلدي؟ قد تختلف الإجابة بالنسبة إلينا في كورسيكا، مع ميل كبير إلى القول بأنّ البلد هو الجزيرة نفسها، أي كورسيكا، وليس فرنسا بشكلٍ مباشر. أمّا "المشهد" الأدبي، فهو متنوّع بالضرورة. إنّه مشهدٌ انبنى، وما يزال يُبنى، على أساس تنوّع لغويّ: أقصد هنا اللغتين الفرنسية والكورسيكية، وكذلك اللغة الإيطالية التي ساهمت أيضاً في تغذية الأدب الكورسيكي.
وبعكس ما يجري في فرنسا، فإنّ الرواية لا تتصدّر المشهد على حساب الأنواع الأدبية الأكثر اقتضاباً منها (القصص، والسرد التخييلي، وسرد الوقائع). وهذا، بلا شكّ، أحد الأسباب الرئيسية لتعلُّقنا الحيوي بالشعر وبالشفاهية اللذين يتمتّعان بمكانة ما تزال كبيرة. كما أنّ الغناء يُعتبر، في هذا السياق، جزءاً أساسياً من المشهد الأدبي. أمّا على مستوى المكان، فهو أيضاً مركَّب، حيث يشمل العالم كلّه، حاله في ذلك حالُ أيّ أدب، مع العِلم بأنّ البحر الأبيض المتوسّط يتمتّع كذلك بموقع بارز.
■ كيف تُقدّم عملك لقارئ جديد، وبأيّ كتاب لك تنصحه أن يبدأ؟
- أُفضّل الحديث عن مُنتَجي الأدبي. فكلمة "عمل" تحتاج مُنتَجاً يحمل معنىً أكبرَ ويستحوذ على اعترافٍ أوسع. إنتاجي مكتوب، في أغلبه، باللغة الكورسيكية، إلى جانب جزء لا بأس به قد تُرجم، وجزء ضعيف نسبياً مكتوب مباشرةً باللغة الفرنسية.
يستحوذ المخيال الجمعي الكورسيكي على مكانة مهمّة في هذا المنتَج. في ما يخصّ الشعر، قد أنصح بقراءة "هِجرات" (Migraturi بالكورسيكية، Migratures بالفرنسية)، الصادر عن "منشورات المنار" الفرنسية. أرضُ الطفولة وعالمُ الصيد في مدينتي، بونيفاسيو، يشكّلان الأساس الذي تنبني عليه وتنطلق منه هجراتٌ عدّة، ولا سيّما عبر البحر.
ما يجذبني في ثقافتي هو أنّها أشبه بورشة مستمرّة
■ ما السؤال الذي يشغلك هذه الأيام؟
- مشغولٌ هذه الأيام بوضع كلماتٍ لأغانٍ سيضمّها ألبوم أعمل عليه مع مؤلّف موسيقي وضع ألحاناً لها، وسيقوم أيضاً بغنائها. يضمّ الألبوم 12 نصّاً أقوم بكتابتها انطلاقاً من الموسيقى التي زوّدني بها الملحّن. أي أنّني أحاول أن أُحدّد ما تُعبّر عنه وتقوله مجموعة الألحان هذه. يشكّل الرابط بين الإنسان والطبيعة الخيط الناظم لهذه النصوص. هذا التقاطع بين الكتابات تجربةٌ مُبهِجة بحدّ ذاتها: التقاطع بين النصّ والموسيقي، وولادة الكلمات التي تُناسبها، ومن ثمّ المرحلة الثالثة التي تأتي لتطعّم هذه الكتابة بتلك وتربط بينهما في نسيج واحد هو الأغنية. إنّها كتابةٌ ثلاثية تقوم، بالضرورة، على ما يحدّدها بشكلٍ مسبَق، وهو محدِّدٌ لا بدّ من تعريف الأجزاء التي يتكوّن منها: جزءٌ من البداهة، وجزءٌ من العَرَضية أو الصدفة، وجزءٌ من التماسُك. قد لا تحتكم نتيجة هذا العمل إلى ما كنتَ تنتظره، لكنّها تسمح لك، في الآن نفسه، بالوصول إلى عناصر سيميائية تُوضّح المعنى الذي كنتَ تبحث عنه.
■ ما أكثر ما تُحبّه في الثقافة التي تنتمي إليها، وما هو أكثر ما تتمنّى تغييره فيها؟
- ما يجذبني في ثقافتي هو، أوّلاً، أنّها أشبه بورشةٍ مستمرّة، أشبه بأرضٍ بِكْر مفتوحة على الإبداع والابتكار. وثانياً - وهو أمرٌ مرتبطٌ بالعنصر الأول - أنّها ثقافة تعدُّدية تسعى إلى مزيد من التنوّع والتفاعل بين الثقافات. كورسيكا جزيرة فرنسية، وهي تقوم أيضاً على ثقافة قديمة منفتحة، بشكل خاص، على البحر المتوسّط. هكذا تنبني الجسور: بين فرنسا وثقافاتها المحلّية (الأوكسيتانية، البروتونية)، وإيطاليا وجزرها (سردينيا، صقلّية)، وكذلك المغرب والجزائر. لغاتُنا الحيّة والحاضرة تسمح بإقامة هذه الروابط وبالتوجّه نحو آفاقٍ لا يحدّدها ويُمأسسها "الأدب العالمي".
■ لو قُيِّض لك البدء من جديد، أيّ مسار كنت ستختار؟
- مساري هو مسارُ أكاديمي وباحث يُنتج نصوصاً عِلمية، وهي تستحوذ على جزء كبير من كتاباتي. هذا النوع من الكتابة المتطلّبة، التي تقوم على الموضوعية والمَراجع والمَساند، مرهِقٌ ومثقِل في الحقيقة. لو قُيِّضَ لي، كنت لأخفّف بعض الشيء من هذه المهمّة لأتفرّغ أكثر للمخيال، والإبداع والسرد التخييلي. مع أنّ السرد أيضاً يتطلّب وقتاً طويلاً: فالوقت الذي تقضيه في الكتابة الإبداعية يمرّ من دون أن تحسّ به تقريباً، يتبخّر ولا يمكن قياسه بشكل حقيقي. باختصار، أرغب في أن أقول إنّني كنت لأختار أن أصبح فنّاناً!
يحدث لي أن أكون سعيداً ولو كان لي متلقّ أو قارئ واحد
■ ما هو التغيير الذي تنتظره أو تريده في العالم؟
- لا أنتظر مقابلاً على أيّ إنتاج أضعه. لديّ أملٌ لا يتزعزع في كلّ نصّ أؤلّفه. ويحدث لي أن أكون سعيداً ولو كان لي متلقّ أو قارئ واحد فقط. فعلُ الكتابة يملأني بما يتجاوز كلّ رضا عن المنتَج، كتاباً كان أو قرصاً مدمجاً أو أيّ موضوع يُنجَز ويُروَّج له.
لكنّ أدبي، في الآن نفسه، هو أدبٌ ملتزم، وأُفقي قائمٌ على رغبةٍ في الكتابة انطلاقاً من مكان معيّن، وفي أن أكون مسكوناً بهذا المكان (أو العكس)، ضمن مسعى إلى المساهمة في نسيج العالم من خلال التنوّع. إنّه شكلٌ من أشكال الحرّية الساعية إلى إعادة بناء العالَم على أساس احترام الأقلّيات المجتمعة في متواليةٍ كونية، والتي تجمع بينها تقاطعاتٌ لا تُحصى. هو ميثاقٌ أعرف، منذ زمنٍ طويل، أنّني لن أكون شاهداً في يوم من الأيام على بدء العمل وفقاً له.
بطاقة
Alain Di Meglio شاعرٌ وكاتب وباحث كورسيكي، من مواليد 1959. يعمل في "جامعة كورسيكا"، انتُخب مندوباً عن الثقافة والتراث في مدينته بونيفاسيو، أقصى جنوب كورسيكا. يكتب الشعر والأغاني باللغة الكورسيكية، إلى جانب منشوراته العِلمية وأعماله في السوسيولوجيا اللسانية. أدّى مغنّون وفرق كورسيكية أغانيه، وتُرجم العديد من نصوصه إلى لُغاتٍ أُخرى. له ثلاث مجموعات شعرية: "هِجرات" (2004)، و"خريفٌ صار فُتاتاً"، الذي حاز "جائزة الكتاب الكورسيكي" عام 2009، و"مشاعر الضفّة" (2015). وله في النثر مجموعة قصصية بعنوان "ماكانيه" (2001)، وكتابٌ حول أحداث ووقائع ثقافية بعنوان "أماكن من العالم" (2011).