"قتل غزّة".. عائلة رفعت العرعير الكبيرة

21 ديسمبر 2023
من الفيلم
+ الخط -

كان قبيل الفجر، وكان سحور رمضان. أخبرتنا السيِّدة العجوز، صبحة شمالي، عن شبح الموت الذي قد يسقط عشوائياً في العتمة وفي أيّ لحظة، ووقعت الضربة الصاعقة، لكنّها مصادفةً نجت، ونجت معها غلّاية القهوة.

إنها التدابير وانتباهات الغريزة والحظّ، تختلف بين نهار وليل. قد يقع شكلُ الموت ذاته، لكنه لعبة إحداثيات قد تصيب في النهار ذاك الذي يحمل غالوناً فارغاً، سعياً وراء ماء صالح للشُّرب، وفوق الليل تلعب القُرعة على مربّعات ومستطيلات بلا معنىً، وتحته البيوت، يسمّونها كذلك لأن الناس تبيت فيها.

والمعنى تحت أعزل، ويُمكن بقليل من الحظّ أن يخرج النص إلى الحياة بعد أن تنهار الأجساد في أيّ لحظة من التعب، وبقدر ما يسمح به التدبير والانتباه الغريزي في تحاشي الموت بالأيدي العارية، كأن يكون الواحد في طابق سُفلي، أو بِلَصْق عمود خرساني، أو مناوباً بلا حول ولا قوّة، سوى أن يكون قرب النائمين شاهدا وحيدا نجا بعينين محدّقتين في القيامة، وتقاسَم السرد مع نائمين لا يتذكّرون الآن أيّ منام.

قالت الأمّ "لا أريد أن يخطفه موتٌ دون أن يشرب قهوته"

صبحة الأمّ والجدّة، ترجّتهم فأذعنوا لرجائها بأن يتجمّع شتات خمسين إنساناً في غرفة. ثلاثة أجيال من عائلة واحدة في غرفة واحدة، حتى إذا جاء الموت سهُل أن يتعرّفوا إلينا... تقول.

قبل أن يُعلن المؤذّن بأذانه بدء الصيام، اشتهى ابن صبحة "كاسة" قهوة. أعرب عرَضاً عن ذلك، فما كان منها إلّا أن همّت بالذهاب إلى المطبخ البعيد، فأمسك الابن بها قائلاً إنه رغِب فقط، ولا يُريدها أن تُغامر بالذهاب إلى المطبخ.

أصرّت الأمّ على تحضير القهوة، وأعدّت غلّايتها، وجاءت بها إلى الغرفة، وما إن سكبتها في "الكاسة" حتى ضربت القذيفة المطبخ. في هذه اللحظة الذاهلة تفقّدوا بعضهم. الضربة أطاحت بالمطبخ وسلمت الغرفة التي يحتشد فيها خمسون إنساناً.

تذكّرت الأم أنها في فسحة الحياة التي توافرت الآن لا بد أن تسقي ابنها قهوته، وقالت "لا أريد أن يخطفه موتٌ من دون أن يشربها، فتبقى الحسرةُ في قلبي".

هذا كلّه وقع في حرب الهمَج على غزة 2014، وكانت صبحة من حيّ الشجاعية تروي شهادتها للصحافيّيَن المستقلّيَن الأميركيّيَن: ماكس بلومنثال ودان كوهين اللذين سيُواصلان عملهما على توثيق الحياة الغزّية حتى سنوات لاحقة من آثار الإبادة التي تُطيح بكلّ شيء بسرعة البرق، ثم يعود الناجون ببطء تحت الحصار الإسرائيلي - العربي يتلمّسون سبلاً للبناء.

أصبح ذلك مؤطّراً في فيلم سيظهر في عام 2018 بعنوان "قتل غزّة"، تقاسم العمل فيه ماكس بلومنثال كتابة وإخراجاً، ودان كوهين تصويراً وتحريراً.

ولو أزحنا العناوين الأرشيفية التي تسيل فيها الدماء الفلسطينية تحت "الجرف الصامد" 2014، فمن الذي سيرى فارقاً بينها وبين دماء "السيوف الحديدية" التي يسفكها العدوّ اليوم، سوى الفارق الكمّي والمكشوف على طريقة إجرام جديدة تقول للعالم إن موضة إخفاء أدلّة الإبادة صارت قديمة.

المرأة الأمّ والجدّة نجحت في مَنْح ولدها "كاسة" قهوة، حتى لا تتجرّع الحسرة إن جاء الموت له وتحاشاها مُصادفةً. هذه الحسرة لم نرها مرسومة بالدموع على وجه امرأة رأيناها في حال هستيرية، بساحة تجمهر حولها الناس، وهي تصرخ في السماء "الأولاد ماتوا بدون ما ياكلوا".

امرأتان في رمضان 2014، وفي يوم العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، وتسع سنوات بين حربَين، واصلتا الأمومة المقدّسة، الأولى لأنها لا تريد حمل عقدة ذنب، والثانية فقَدت صوابَها، لأنّ الموت خطف أولادها دون أن تطمئنّ عليهم وهُم يعبرون إلى الأبدية شبعانين.

تُظهر كثير من المشاهد عبر الهواتف المحمولة أُمّهاتٍ وآباءً أمام جثامين صغارهم مُسجّاة، وهم يُخاطبونهم معتذرين عن أي تقصير أو سهو أو وعد لم يوفَ. هؤلاء هم الضحايا عكس خط الزمان الأفقي، يشكرون ماكس بلومنثال ودان كوهين، وقد أهديا فيلمهما "لضحايا حرب إسرائيل القادمة"، لكنهم منذ النكبة الأولى يرفضون أن يكونوا مرصودين لحرب قادمة إلى الأبد.

وهُم ليسوا أرقاماً. وكونهم ليسوا كذلك، هو ما يصرخ به الفلسطيني في فيلم وثائقي طويل منذ النكبة. هناك حرب إسرائيلية قادمة دائماً على فلسطين، وعلى غزّة أشدّ عدائية. إنهم يكرهونها أكثر من أيّ مكان فلسطيني آخر.

لا نرى رفعت العرعير في فيلم "قتل غزة"، إلّا أننا سنعرف وجوده الفاعل والأساسي بعد استشهاده يوم السابع من الشهر الجاري.

قدّم الشريط زوايا شاملة للقاتل والقتيل وأدوات الجريمة

هذا أستاذ الأدب الإنكليزي في "الجامعة الإسلامية"، وأحد مؤسسي مشروع "نحن لسنا أرقاماً" عام 2015، والمؤثّر في جيل شابّ سيروي قصصه بالإنكليزية. وقد كان مُزعجاً لدرجة أن الاحتلال الذي يقتل مثل مجنون أعمى، قرّر بالتحديد قصف الشقّة التي التجأ إليها في جريمة يطلقون عليها وصف "عملية جراحية".

وعلى منصة "إكس" ("تويتر" سابقاً) يُواصل صانعا الفيلم تضامُنهما اليومي مع غزة. وحينما قرّر الاحتلال اغتيال رفعت العرعير عرفنا أنه كان حاضراً خلف الكاميرا مع أميركيَّين سيصبحان صديقين.

وهذا هو دان كوهين ينعاه قائلاً "لقد كان رفعت الضوء الهادي عندما وثّقت الحياة والموت في فيلمي الوثائقي 'قتل غزة'. لقد ساعدني في الوصول إلى كبار السنّ في حيّه الذين قدّموا شهادات عن جرائم حرب إسرائيلية مروّعة".

يتحدّث كوهين عن حيّ الشجاعية بمن فيهم العجوز التي سقت ابنها القهوة، وربِّ العائلة الذي أعدمه الجنود بعد استسلامه أداروا ظهورهم ببرود، ثم كان الحظّ كافياً لأن يجد نفسه في المشفى على قيد الحياة.

حاول كوهين وبلومنثال تعميق السرد الشفوي بالرسوم المتحرّكة التي تمنحنا زوايا رؤية شاملة، للقاتل والقتيل وأدوات الجريمة. بعين الكاميرا وخيال الرسوم يُترجم الفيلم مقولة أحد الناجين، إن لا مجال للكلام "فقط شاهدوا"، بينما يظهر ذاهلون يائسين ممّا تفعله الكاميرا ويقولون "ما الذي تصوّرونه؟".

في واحدة من محادثاته الأخيرة يُخبر كوهين صديقه رفعت بأنه شعر خلال وجوده في غزة، كما لو يوثّق "غيتو وارسو" قبل تصفيته على يد النازيّين. ووعده بأن كتاباته ستظهر في متحف ضحايا الصهيونية في المستقبل.

لم يكن يتخيّل أن هذه ستكون رسالته الأخيرة للإنسان الذي "استخدم الأدب والشعر باللغة الإنكليزية لتعليم طلّابه الفرق بين اليهودية والصهيونية، وتزويدهم بالأدوات العقلية لمقاومة الدعاية الصهيونية التي تسعى إلى الخلط بين الاثنين".

هؤلاء، جميعاً، هم عائلة رفعت العرعير الكبيرة. لربّما مات منهم في السنوات التسع ميتة طبيعية. طبيعية تعني أن الفلسطيني لا تنتهي حياتُه بـ"السيوف الحديدية"، بل في الأيام العاديّة التي يُدار فيها موت عادي وبطيء على المعابر.

ولربما قُتل منهم من قُتل في الحرب الحالية المسعورة والمكشوفة، ونجا منهم من نجا، ويتذكّر الكبار في السنّ ابنهم رفعت الذي وعدهم، والشباب ممّن درسوا على يده، أنه كان هنا، مثل غيره، كلٌّ باسمه.

أحد ما ينبغي أن يكون رابط الجأش حتى يُساعد الضحايا بألّا يُقتلوا أكثر من مرّة. وهنا ظلّ الأصدقاء، الأميركيّان والأكاديمي الفلسطيني على وعد بألّا يكون أحدٌ رقماً لمجرّد أنه أعزل ويائس.

فـ"نحن لسنا أرقاماً" قالتها صبية فلسطينية في الفيلم، وهي من مواليد عام 2000، وقد بدأت مسيرها التشكيلي مع عدوان 2014، هي ذاتها الفنّانة الفلسطينية ملاك مطر التي افتتحت معرضها الشخصي الأول في لندن في تموز/ يوليو الماضي، وهي تستذكر الآن الدور العزيز والمُلهم لرفعت العرعير الذي كتب "إذا توجّب أن أموت، يجب أن تعيشوا، لتحكوا قصتي".

المساهمون