السلطان الظاهر ركن الدين بيبرس (حكَم بين عامَي 1260 و1276) اسمٌ ألهب، وما زال يلهب مخيّلة العرب اليوم وهم يفتشون عن أبطال في تاريخهم المديد يعوّضون شحّ الأبطال المعاصرين ومرارة اللحظة. فهو الوحيد من سلاطين سورية ومصر الذي حظي بسيرة شعبية كاملة متكاملة أصدرها في نشرة محكمة بالفرنسية، ثم بالعربية من خمسة عشر جزءاً، مستعربان فرنسيان هما جورج بوهاس وجان-باتريك غيللوم، بعد أن عملا عليها مع فريقهما لأكثر من عشرين سنة، وقد كان الظاهر بيبرس بطل مسلسل تاريخي سوري أنتج عام 2005، ومثّل شخصيته فيه بحرفية عالية الممثل السوري عابد فهد.
وهو، والحق يقال، يستحق ذلك وأكثر؛ فهو بطل عسكري جَسور وجلود وسياسي محنّك قلّ نظيره في زمنه وبعده، فعلى الرغم من أنه اعتلى العرش بعد مشاركته في مؤامرة انتهت باغتيال سيّده السلطان قطز عام 1260، إلا أنه شرَع على الفور عند توليه منصبه بإعادة بناء سلطنة موحّدة ضمّت مصر وسورية الأيوبية كلّها، التي كانت قد دُمرت بعد الهجوم المغولي الكاسح.
وقد تمكن في وقت قصير من تثبيت حكمه وتأمين حدود سلطنته وإبقاء خطوط التجارة مفتوحةً من خلال الدخول في سلسلة من التحالفات مع العديد من جيرانه الأقرباء والبعداء مثل بيزنطة، وجنوى، ومغول القبيلة الذهبية في حوض الڤولغا، وانتهج سياسة الجهاد الدؤوب ضد الدويلات الصليبية الباقية، واسترجع العديد من القلاع والمدن التي سيطرت عليها على الساحل السوري والفلسطيني.
لكن قراره الأكثر ذكاءً وبُعد نظر الذي أضفى من خلاله شرعية إسلامية على نظامه المملوكي الناشئ، إحياؤه للخلافة العباسية في القاهرة، إذ استغل بيبرس تشتّت أفراد الأسرة العباسية الذين نجوا من مذبحة المغول بعد استيلاء هولاكو على بغداد عام 1258 وقتله للخليفة المستعصم بالله، لإحضار أحدهم إلى القاهرة وتنصيبه خليفة للمسلمين بلقب المستنصر بالله الثاني، ثم إجباره على تفويض السلطان بيبرس بكلّ سلطاته السياسية، ونتيجة لذلك ارتفعت أسهمه إسلامياً، وخاصة في مواجهة أعدائه الألداء إيلخانيو المغول في إيران.
استخدم المماليك الزخرفة والشعر والقصّ لتمجيد فتوحاتهم
رحل الظاهر بيبرس في الأول من تموز/ يوليو عام 1277، في القصر الأبلق الذي بناه في ضاحية دمشق بسبب مضاعفات أعقبت ليلة شرب قميز (حليب الفرس المخمر) أو ربما مات بالسم، ودُفن بسرعة في ضريح بُني على عجل في الغرفة الخارجية لدار اسمها دار العقيقي اشتريت بأمر من ابنه وخليفته بركة خان، رغم أنه كان قد أعد لنفسه ضريحاً في القاهرة ضمن مدرسة أنشأها بمحاذاة مدرسة سيده الصالح نجم الدين أيوب مطلّة على القصبة (شارع المعز اليوم). ولكن القبّة التي أمر بها بركة خان لم تكتمل حتى عام 1281، بعد رحيل بركة خان ودفنه مع والده بأمر من المنصور قلاوون، السلطان الجديد الذي اغتصب العرش من نسل بيبرس، ولكنه أكمل مع ذلك بناء الضريح وزخرفته.
هذا الضريح والمدرسة الملحقة به أصبحا المكتبة الظاهرية عام 1877 عندما نجحت ثلّة من علماء دمشق، على رأسهم طاهر الجزائري (1852 - 1920)، في ضمّ محتويات عددٍ من مجموعات الكتب والمخطوطات الموقوفة في معاهد المدينة لتأسيس أول مكتبة بحثية عمومية.
ضريح بيبرس غرفة مربعة الشكل مغطّاة بقبة على أسطوانة عالية مثمنة الأضلاع ترتكز على أربع حنيات ركنية بسيطة، وزيّنت جدرانها الأربعة حتى ارتفاع حوالى خمسة أمتار بالرخام الملون والمشكّل هندسياً، يليه شريط ضيق من زخارف الجص، ويعلوه إفريز من الفسيفساء جُدِّد أخيراً يدور حول الجدران الأربعة، حتى إنه يدخل في حنيات أقواس الباب والنوافذ.
وإفريز الفسيفساء هذا هو ما يميز الضريح بمادته وموضوعه ومعناه؛ فثلاثة من جوانبه الأربعة تضمّ تشكيلات معمارية من مبانٍ وأبراج وأروقة تتخلّلها بعض العناصر النباتية، على حين أن الجدار الرابع والأركان الأربعة وإطارات النوافذ الستّة تغطيها زخارف نباتية طبيعية ومنمقة ومزهريات وأشجار ولفائف مورقة تذكّرنا كلها بالنماذج الأمويّة الفسيفسائية في الجامع الأموي القريب.
نجحت ثلّة من علماء دمشق بتحويل الضريح إلى مكتبة عمومية
المجموعات المعمارية الثلاث المرسومة بالفسيفساء في القبّة الظاهرية مرتبة بشكل متناظر حول مراكز جدرانها، وأكثرها تفصيلاً هو الجدار الجنوبي، أو جدار القبلة، الذي يشغله صفا أبنية متراكبان، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الجدار الغربي مع اختلاف في طراز الأبنية. أما الجدار الشمالي فوق المدخل، فتتوسّطه شجرة ضخمة نفّذت أغصانها وأوراقها بذات طريقة التظليل التدريجي الموجودة في أشجار الفسيفساء الأموية، ولكن بحرفية أقل وبتشويش للعناصر المعمارية في منظورها وفي تراكبها، ما يوحي بأن معطيات هذا الفن القديم ربما كانت قد تدهورت مع مرور الزمن، ولو أنها قطعاً ما زالت حاملة لعبق التراث وهيبة الماضي.
ظهور لوحات الفسيفساء يتكرّر في زخرفة عدد من المباني المملوكية المبكرة في دمشق والقاهرة (خاصة في قلعة القاهرة) والقدس والخليل خلال حكم السلاطين الذين خلفوا بيبرس، المنصور قلاوون (1280-1290) وابنه الأشرف خليل (1290-1293)، ثم سيخفّ ظهورها خلال حكم الناصر محمد ابن قلاوون (1293-1340 مع انقطاعين) لتختفي تماماً بعده.
ولكن ما هي المعاني التي قصدها منفذو هذه المناظر الفسيفسائية المعمارية؟ وكيف رآها معاصروهم ورعاتهم؟ وكيف يمكننا قراءتها اليوم في سياق الفترة المملوكية المبكرة؟ الرسالة الأساسية في قبّة الظاهر بيبرس كانت التفاخر بفتوحاته وانخراطه في الحروب ضد الفرنجة والأرمن وصدّه للعديد من غزوات المغول في بلاد الشام وتثبيته للحكم المملوكي على صعيد الجبهة الداخلية، وهي بذلك تتشابه والتمثيلات المعمارية الفسيفسائية الأخرى التي ظهرت في عمارة سلاطين آل قلاوون الثلاثة.
فهؤلاء السلاطين العظام قد تميّزوا جميعاً بقتال الصليبيين والمغول وتمكنوا من استعادة كل سورية الطبيعية منهم والتوغّل في الأناضول وتأمين كل هذه الأراضي للسلطنة المملوكية، وهم بطبيعة الحال، كانوا يريدون الاحتفال بهذه الفتوحات، ومن خلالها تأكيد سيادتهم وتمجيد شخصياتهم وإنجازاتهم بطرق واضحة ومفهومة لرعاياهم، وعليه استخدموا كلّ الأدوات المتاحة من بناء وزخرفة وكتابة، بل وحتى الشِّعر والقصّ الشعبي لتمجيد هذه الفتوحات.
هكذا على الأرجح، استُعيدَت فكرة استخدام التمثيلات المعمارية الفسيفسائية على الجدران من نماذجها الأموية كرسائل حول المدى الجغرافي لسيادة السلطان، وهذا التفسير المنطقي ينبع من السياقات السياسية والعسكرية للدولة المملوكية في تلك الفترة، وأيضاً من الجلالة والمهابة التي تمتعت بها مشاهد فسيفساء الجامع الأموي التي شكّلت النموذج الذي اتبعته مشاهد الفسيفساء المملوكية؛ فالمشاهد الأموية حمّالة للمعاني، وهي ماثلة للعيان في الجامع الأموي، وما فعله المماليك هو إحياء موضوعات الفسيفساء الأموي المعمارية وتطبيقها في مبانيهم لإدخال بعد جديد ذي مغزى في الفترة ذاتها التي كانوا فيها يثبتون حكمهم على الأرض في بلاد الشام ومصر.
* مؤرّخ معماري مقيم في الولايات المتحدة