قبل أن نصبح لاجئين

18 ابريل 2022
هاني زعرب/ فلسطين
+ الخط -

قبل أن نصبح لاجئين، قبل أن نصبح مؤرّخين لألمِهِم بفترة طويلة، كنّا شعراء؟

واليوم مرّ علينا اثنان وستّون عاماً، بعد الولادة، وها نحن نغصّ بالرماد، على وشك الرحيل؟

الهوية تتكوّن من المنسيّ، مع الأناركية، الاشتراكية، الخطى التي تصنع الطريق، الحرّية في كلّ شيء إلّا الاقتصاد؟

تلك الكلمات التي يتردّد صداها في عقل وحياة المرء، حتى وهو يتكوبس؟

ذلك أن الواجب ليس سوى النضال من أجل الحقيقة، تسمية الواقع، كتابة شعر عنه؟

فالثورة هي الكلمة، أفق الناس وقد جاعوا، وديست كرامتهم، من اتساع بحبوحة الرأسماليين؟

وهي نقيض القهر، أمس واليوم وغداً، لا تحاكيه أبداً ولا تصمت عنه، بالمطلق؟
وعلى الرغم من أن قليلاً من الخلق يعرف ذلك، إلّا أن المرء الفقير الواعي، كان يعرفه على جلده، لأنه قبل كلّ شيء، عاناه واقفاً وجالساً وراقداً، من زود الشقا، وكان شاعراً؟

اكتب النثر، إن عزّ الشعر، أيّها اللاجئ في عَراء المصير

حتى أنه عندما كان مراهقاً، كان شيوعياً بالفطرة، وأراد الخير يعمّ الجميع، وخلال كلّ هذا أراد فقط أن يصبح شاعراً، وخلاص؟

شاعراً، لم يرغب في كتابة النثر، لأنه من الشغوفين بالوزن والإيقاع؟

بالبحث عن الإيقاع في كلّ شيء؟

في نموّ الشجرة، وفي زقزقات العصافير، وحركة الأحاسيس؟

في انتشار الظلّ على الحائط، في تنفّس الرضيع، ولم يتعلّم العَروض، ولكنّه، عندما بدأ في كتابة القصائد الموزونة تفعيلياً، كان مصدر إلهامه هم الجيران في المخيّم، المشاعر التي مرّت به وهو يرى إليهم، ويمحّص رداءة الوضع؟

لاجئون معلّقون على خشبة المسيح الجديد؟

الحبّ، على سبيل المثال، لم يكن من انهماماته، مع أن الهرمونات كانت آنها تشتغل بعنف؟

حياة الناس في المخيّم هي سنام شِعره، في تلك الأيام، بالإضافة طبعاً إلى الوعي المستقى من ماركس، وبقيّة الرفاق؟

كان الشعر هو مصدر إلهام حياته، وخارجه، ما من معنى للعيش الأليم، تحت سقف قرميديّ هشّ، يمكن أن يكسره في شباط، مرورُ قطّ كبير يبحث عن متعته؟

وعليه، يتسرّب المطر على فراش نومه وفراش باقي الأسرة، لا شكّ؟

ولا شكّ أحياناً أنه كان يفسّر كلّ شيء على أنه مادّة قابلة للتشعرن؟

فالشعر العظيم نتاج التجربة ورهافة الاستقبال؟

ترى، هل كان يساعده الشعر، وقتها، في تعضيد صموده تحت بسطار المحتلّ؟ ويحثّه على الإنصات لأدنى دبيب أو هسيس أو همسة أو حركة أو وقع خطى في ليالي المخيّم العارية؟

يساعده، الشعر، كما لو أنه كتبٌ ثقافية وصحافة، على تفسير الحياة؟

هل كان يرى في تشي غيفارا، ومن قبله في يسار التراث العربي، منافذَ للأمل؟

ومثل تشي وأبي العلاء المعري، وسواهما، كان يكتشف كلّ يومٍ جديدٍ، ماهيّةَ الشعر في أوقات المراهقة، ولكنْ دون أن يجرؤ على تعريفه بكلمات؟

وبناءً عليه، لو وصلنا للحظة العالم الراهنة هذه، لصَفَنَّا وفكّرنا مطوّلاً، على النحو التالي:
لو بوتين ضربهم بالنووي، لن نخسر سوى حياتنا الرخيصة في المغترَب الأبيض، ولله الحمد؟

إن شاء الله يمسحهم عن آخرهم؟ لقد أفسدوا كلّ إيقاعات حياتنا الآفلة، ما إن دخلنا مخيّم لاجئيهم الغزير المتكدّس؟

لم يكونوا ليعرفوا أن الحياة لا بدّ لها من نغمة؟ الإيقاع أمرٌ بالغ الأهمية، لكنْ من أين يأتيان والمرء ينام كلّ يوم على رصيف مختلف؟

حتى في تحضير الطعام، فإن الإيقاع هو ما يسمح للأرزّ بالطهي بالتساوي، ويليّنه دون أن يفقد شكله أو قوامه؟

الجزء المفضّل لديّ من العَروض، هو عندما يدخل الزعفران إلى المشهد ليأخذ مكانه كدور قيادي، ثم ينشر براعم برتقالية صفراء، حتى يمتصّها الأرزّ شيئاً فشيئاً، وتصبح نغمة الباييلا بأكملها موحّدة؟

وعندئذٍ تتمّ إضافة الفاصوليا الخضراء والفلفل الأحمر، عندما يكون الأرزّ جاهزاً تقريباً، وتتكوّن اللمسة الأخيرة من إعادة دمج جميع المكوّنات البرّية والبحرية التي تم تحضيرها بالفعل في بداية المغامرة؟

هل كان مذهلاً بالنسبة لهم، أنهم ما يزالون أحياء يأكلون؟

هل كانت تلك الليلة احتفالاً بالنكهات التي تُوجّت بنخب شامبانيا من ماركة ممتازة؟

تظهر أمّي مع المرَق، لإضافته شيئاً فشيئاً؟

لِمَ لا توافق عائلتنا الصغيرة المكوّنة من أربعة ذكور، على الرغبة في تناول الدجاج المخبوز في المنزل؟

أولادي الثلاثة "فيجيتاريان"؟ لأنّ أباهم كان طول عمره مثلهم، وفقط اضطرّ للتغيير بسبب أنيميا جاءت على كَبَر؟ لِمَ، متأكّداً من أنّ كلّ عملية كيميائية تدمج المكوّنات، يجب أن تمتصّ بعض العناصر المؤثّرة؟

أن تحيا كاتباً، لحقيقة أكثر إبداعاً من أن تكون طبيباً ولهُ ستّ عيادات؟

وأن تكتب العمل الأدبي الأوّل بين سنّ 15 و25 عاماً، لَهُوَ من رضا الوالدين؟

تماماً، مثل أن تجد رجلاً هنغارياً، يعطف عليك، ويساعدك، وأنت عابر السبيل، ومحتاجٌ للقمة وسقف، في طريقك التي قطعتها مشياً على الدروب، وسكك القطار، وعبور ليل الغابات والمستنقعات، على ضوء الجوّال، من صربيا إلى هنغاريا إلى رومانيا إلى كوسفو، إلى النمسا إلى إيطاليا، إلى فرنسا، كي تصل أرض الألدورادو الخُلّب: بروكسل؟

ترى: هل يجمع العمر القصائد المكتوبة، في الأوقات التي أراد فيها المرء ألّا ينشر في الصحف والدوريات؟

هل أن يكون المرء، شاعراً فقط، وهو في طرق التهريب والهجرة، لَأمرٌ معناه أن القطّة تأكل عشاءه، وتسرق ماله، وجوّاله الضروري، فيروح يسير بين الغابات والحدود ونقاط التفتيش العسكرية، على غير هدى؟

وحينها، لا يجد مفرّاً من البكاء على ذكريات ما مضى، التي لم يتبهدل فيها، إلى هذه الدرجة؟

ويبكي، لأنه، بأيّ حال من الأحوال، لا تهون عليه نفسه، حين يهبُّ في وجهه رجُلَا حدودٍ من المجر، قائلَيْن إن بلدهما أرثوذكسي، لا مكان فيها للاجئ مسلم؟

وحينها، حتّى لو خلا له الجوّ، فلن يستطيع حتى كتابة النثر، على شكل يوميات؟

اكتب النثر، إن عزّ الشعر، أيّها اللاجئ في عَراء المصير وسواد الأمكنة؟

اكتب، لأن الكتابة، كأسباب للحياة، لم تعد تصادف، في نفسك المكسورة، أيّ هوى؟


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون