أكره الغرب، بحكم التقدّم في العمر، على نحو منهجي، يعتبره البعضُ عدميّاً. لا بأس. الآن أصبح الغرب (نتحدث عن أنظمته وسياساته بطبيعة الحال) وربيبته، في متناول أيدي القرّاء، كأحدث طبعة مشروحة تمت رؤيتها على الإطلاق في فلسطين المحتلّة. ليس قرّاء منطقتنا فحسب، إنما القرّاء في أي مكان من العالم ـ إن كانوا معنيين.
إن مصيبة قرّاء العصر، أن سوادهم الأعم، يتمتع بذاكرات قصيرة جدا. ويقع تحت هيمنة مؤسسات ووسائل إعلام وثقافة، هائلة قوس التمويل والاتساع، تعمل من الحق باطلاً، وبالعكس، كي تحافظ على استقرار مصالح مُموليها.
وللأسف: ما يزال الغربُ، حلمَ غالبية قاطني كوكب الجنوب، أينما كانوا وحيثما ينامون. فالغرب عندهم وحده هو اليوتوبيا، ولعلّ سواه، في الأرياح الأربع، مجرد ديستوبيّات أو شيء من هذا القبيل.
وللأسف مجدداً: ما يزال الغرب في رأي مليارات من الناس، سواء كانوا من القراء الأذكياء المتحققين وغير المتحققين، أو من الغلابة وعديمي مدّ البصر واتساع الحيلة، هو أعظم الروايات المكتوبة في التاريخ، وأعلى الأماكن رفاهيةً، بالمطلق.
مع دوام الاعتذار لوحوش البراري لنقص في اللسان البشري
لكم أشاد بالغرب عددٌ لا يُحصى من النقاد والمفكرين وكتّاب المقال والشعر والرواية، وعدد أكبر، بما لا يُقاس، من بشر آخرين عاديين، بينما لم ينتقده أو ينقضه سوى أقل القليل من العقول البصيرة، متمنين أن يُدفن نمط حضارته العنصري الاستغلالي، إلى الأبد، مع مُنتجيه والمطبلّين له أنفسهم.
هؤلاء وغيرهم كثيرون لم يقولوا ذلك لأنهم كانوا يقرؤون هذا الكتاب المذهل أو ذاك، عما فعله الغرب بالقسم الأكبر من جغرافيات وتواريخ بلدان العالم، ولكن بسبب كل ما يعنيه حلمهم لهم، بعيداً عن مجريات الواقع، في بانوراما الاقتصاد والمال والصناعة والتكنولوجيا، ناهيك عن الأدب الغربي، على جانبَي بحر الظلمات، منذ ذروة الحضارة البرجوازية، إلى اليوم.
هؤلاء يقرأون أو يتابعون سيل البثّ الأبيض، دون أن يتكلّفوا تعب كتابة مراجعات نقد أو نقض له، على أغلفة دفاتر الملاحظات.
هؤلاء يحلمون بقضاء باقي العمر، في جنة الغرب والشمال، وهم، حتى أثناء وجودهم في بلدانهم، مستعدون لنسيان "صيرورة التاريخ" هناك، كونها لا تهمّهم كثيرًا، بل أكثرهم يعتبر التاريخ نفسه، عاطلاً من العمل إلى الأبد. يسألون: وما الفائدة؟ ويعتبرون أنفسهم غير مخطئين كثيرًا.
إنهم يعتقدون أن القول بسعادة الغرب على حساب الجنوب، هو موضة قديمة، لا يتسع لها فضاء العصر المتدافع. إنهم يجهلون أن حالهم هذا مثل ذاك الملياردير يقول لزميله: "يا عزيزي، لسوف ترى كم هو مضحك أنك تريد حضور حفل زفاف رجل فقير".
طويلة ستكون خيباتهم عندما يمعنون في التجربة، وتتسحّب أعمارُهم نحو المآل الأخير. طويلة، وسينكفئون منها على قواقع الذات، مخذولين، مكسوري الخاطر والقامة، حتى لا مندوحة. سيعرفون وقتها المعاني الكامنة وراء هذا التوصيف البسيط: "وحشية الغرب". سيفهمونها، ولكن بعد فوات الأوان. مع دوام الاعتذار لوحوش البراري، لنقص في اللسان البشري، يجعله ظالماً لكائنات نبيلة حين ينسبها لكائنات وبيلة أُخرى.
* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا