في رحيل عادل مقديش: خمسة عقود من ترتيب ألغاز العالم

04 فبراير 2022
عادل مقديش
+ الخط -

غادر عالمنا الأسبوع الماضي الفنّان التونسي عادل مقديش (1949-2022) عن اثنين وسبعين عاماً وتجربة فريدة في تحديث الخطاب التشكيلي عربياً عبر أعمال ترتجّ في حلاوة الغموض، تستفزّ ناظرها لمزيد التّأمّل والتفكّر، وتدعوه للتغلغل في بنية الضّمير الرّاهن وفهم الشّخصيّة العربيّة الشرقيّة.

بدأ مقديش مسيرته الإبداعيّة أواسط سنوات السّبعينيات من القرن الماضي برؤية تجريديّة تستفيد من فنّ الخطّ العربي وزخارف الرّقش، ثمّ بعد عودته من "الحيّ الدّولي للفنون" بباريس وإقامة في المغرب، خَلُصَ إلى رؤية سورياليّة تستفيد من المشاهد اللّامتوقعة التي كثيراً ما يستلهمها من الأسطورة والتّراث السّردي الشفوي العجائبي وبقي حتّى أخريات حياته يرتّب أركان هذا العالم السّحري، حيث كان يفتح نوافذ مختلفة على المجهول والفاتن والملهم، هي في الحقيقة أمزجة جماليّة تلامس مناطق سريّة في الذّات البشريّة وأهوائها وصراعاتها التي تخوضها مع نفسها. وبين هذا وذاك، تتجلّى المرأة عروساً شرقيّة تخطف الأبصار، مفعمة بالوجد، عامرة بالعشق، مطرّزة بالأحلام السّعيدة والأوهام الشقيّة أيضاً. 

كان في حياته أشبه بالكائنات الملغزة التي تعيش في لوحاته

يعدّ مقديش من بين الفنّانين العرب القلائل الذين أخلصوا في محاولة تحويل السّرد الحكائي إلى الفضاء التّصويري، من داخل مقوّمات اللّوحة الحديثة وتوازناتها، دون الوقوع في الفولكلور الفجّ. لقد ظلّ الفنان التونسي لصيقاً بشواغل المجتمع، مخالطاً لمختلف الفئات منذ نشأته الأولى في مدينة صفاقس مروراً بشارع الحريّة بتونس العاصمة، حيث اتخذ له فيه مرسماً سنوات الثمانينيات، ثمّ بضاحية سليمان، قرب مزارع العنب والكروم والبرتقال، حيث كان يسكن مع عائلته الصّغيرة، يرسم تارة ويلوذ إلى مكتبته الضّخمة، تارة أخرى، مكتبة مدجّجة بنفائس الكتب والمخطوطات القديمة، كان يقرأ فيها عن التّصوّف خصوصاً في زيارات متكرّرة لابن عربي والسّهروردي والحلّاج والنّفري... وكذلك للتّحليل النّفسي؛ فرويد، جاك لاكان ومصنّفات في علوم الفلك والبيولوجيا.

بعد ذلك، قرّر أن ينتقل إلى قرية نائية بالقرب من مدينة الحمّامات، ليظهر بين الفينة والأخرى في حيّ المنار أو في ضاحية سكّرة حيث قدّم عديد المعارض، برواق "كاليستاي". لم يكن مستقرّا بمكان واحد، كان مجرّد مقيم عابر في هذه الأمكنة ولكنّه كان يبحث عن سكن ملائم في فضاءاته التّشكيليّة وأكوانه التي يهندسها بنفسه. 

عادل مقديش

اليوم، تتوزّع هذه الأعمال التي ظهرت في معارضه بين مسلكين أساسيين، عدد منها قد اندرج ضمن مقتنيات الدّولة التونسية للأعمال الفنيّة وجزء آخر نجده في عديد المجموعات الخاصّة أبرزها لدى "مجموعة صدربعل" التي تقدّم تصوّراً لخلق علاقة تفاعل بين شبكات المتاحف والفنادق، وتضم اليوم أكبر مجموعة خاصة في شمال أفريقيا بحوالي ثلاثة آلاف لوحة.

مسارات مقديش ولوحاته تجعلنا نتساءل: كيف يرتمي الفنّان داخل أسوار الحلم وهو يعتقد أنّه يتحرّر من دوّامة الواقع المعيش؟ كيف تستقيم له الحياة بين خداع الفنّ وقناع الرّؤية؟ كيف يخترق اللّامكان بحثاً عن سكن ملهم وكيف يوقظ بالفنّ هاجس الحياة في ركام الأشياء وزخرف الذّاكرة؟ 

ليس من باب الاعتباط أن يختار مقديش العمل بـ"المعهد العالي للفنّ المسرحي" كأستاذ للتّعبير التشكيلي بعد أن قضّى سنوات بالتّدريس بـ"المعهد التّكنولوجي للفنون والهندسة المعماريّة والتعمير". يوضّح هذا المسار بعض فلسفته في الفن؛ كلّ لوحة هي بمثابة كيان سينوغرافي يحدّد وضعيّة المشهد وبنية الشخوص وكذلك الملابس والمتمّمات: دقّة في التّناسبات ووضوح في الخطوط وضبط دقيق للملامح ورصد لعناصر الإبهار المستمدّة من التّراث الخطّي والزّخرفي الشرقي كالعلامات الرّمزيّة والأفاريز والمحسّنات التّزويقيّة وخلفيّة الدّيكور... الأصابع طويلة ورشيقة، العيون متّقدة وكثيرٌ من الأقنعة. 

فتح نوافذ مختلفة على المجهول والفاتن والملهم

وفي كل لوحة يُظهر الفنّان بقدر ما يُخفي. هكذا، يكون الفنّ إثارة لذلك الشيء الملغز الذي لا يوجد إلا مخفيّاً. وكثيراً ما يدرج الفنّان صورته بين شخوصه، إنّه واحد من هذه الكائنات الملغزة التي تعيش في لوحاته. إنّه يتأمّل نفسه، ينسج إيقاع السّنين ما بين شكل ورمز، يرتّب أفكار الذّات التي أرهقها التّيه، يعزف أشواق الزّمان وهي تسترسل أنغاماً من خلال إيقاعات اللّون والحركة الخطيّة. 

أمّا تواتر علامات العود والقيثارة بين أيادي شخوصه النّسائيّة فهو إحالة لهذه البنية الموسيقيّة التي تحكم كليّة الوجود ووحدة العالم. كأنّ العازفات يوجّهن النّاظر إلى هارمونيّة العالم التي تطبع كلّ شيء، على نحو ما ورد في نصوص سيسرون، المفكّر الرّوماني الرّواقي. لا يمكن اختزال العالم في معطيات العقل والإدراك المباشر. بل هناك حاجة جماليّة لرؤية هذا العالم من خلال عين قلقة تفتعل العجائبيّ في الأشياء وتبحث عمّا يخترق سطحيّة الرّؤية المألوفة. 

فتح نوافذ مختلفة على المجهول والفاتن والملهم

لقد رأى عادل مقديش في الواقع أعمق درجات السّورياليّة، حيث أضاء تناقضات شخوصه ما بين فتوّة وأنوثة، فروسيّة ولطافة، عنتر وعبلة، شهرزاد وشهريار... كما وجد في السّيرة الهلاليّة ما به يضيء تناقضات الذّات البشريّة ما بين عشق حالم وحربٍ ضَروس. فكانت مشاهد الجازية الهلاليّة وأبي زيد كفيلة بمسرَحَة اللّوحة والتّعبير عن ذروة الصّراع ما بين أمزجة الشخوص وطبائع العلامات الفنيّة وهي تتقلّب ما بين نور وظلمة. 

وتكاد أغلب أعمال مقديش أن تكون تقريظاً لقيمة الأنوثة وهي تتجلّى في عالمها المخمليّ الباذخ، لدى بلقيس والجازية وشهرزاد والأميرة ذات الهمّة، في عالم يشوبه عنف القوانين وتوحّش الحضارة. إن تذوّقنا للّوحة يبدأ من تعاطينا للشكل بوصفه لغزاً. كلّ شخوصه النّسائيّة مدجّجة بالحليّ والرّموز. كما أنّ هناك حرصاً على شحن الفضاء بأكثر ما يمكن من المحسّنات الجماليّة، أسوة بفنّ المُنمنمات والأرسومات الزّجاجيّة. وهو ما يكفي لتكون اللّوحة بمثابة قناع يحتمل شيئاً يسيراً من اللّغز وخداع الفنّ. وقد يتجلّى التّراث في شكل نظام رمزيّ، ولكن من قدرة الفعل التّشكيلي أنّه يُخرج الرّمز من بعده المتحفي إلى بعده الخلاّق. وليس لنا إلا أن نتوسّل بهذه العلامات عنصر المفاجأة، حتّى ينبعث السّؤال في المناطق غير المطروقة للمشهد ويغتسل العالم بحرقة الأسئلة ويتجدّد فيه المعنى بعد أن جمّدته الذّاكرة اليوميّة وحنّطه الاستهلاك وأصبح بضاعة منسيّة في سوق الفولكلور.  

قارب الفنّ كإثارة لذلك الشيء الملغز الذي لا يوجد إلا مخفيّاً

خمسون سنة هو عمر هذه الرحلة الفنية. كانت خلالها لوحة مقديش نافذة على اللامعقول الذي يربك نظام العالم ولكنّها متجذرة في قلب واقع أنهكته التّناقضات وحوّلته إلى كتاب من الأسئلة، كتاب مفتوح على العجيب والغريب من الحَكايا. فمع هذا الفنّان يمكن للإنسان أن يستعيد دهشته الباكرة ليبعث السّؤال في أدقّ التّفاصيل. وتلك العيون النسائيّة الحالمة، بقدر ما تؤكّد رفعة الإنسان، فهي تحثّنا على إعادة النّظر في المسلّمات. إذ النّظام السّردي للعالم الذي يحوّله الفنّان إلى نسيج من العلامات البصريّة، يربك فينا قناعاتنا المطمئنّة. فالأشياء والأحداث، الشّخوص وعلاقاتها، الأضواء وتدرّجاتها، الخطوط وإيقاعاتها تحرّضنا على مراجعة قيم الجمال ومعقوليّة الواقع وإعادة تشكيل اللّحظة القادمة على ضوء تحوّلات المشهد التّصويري داخل احتماليّة التّأويل. 

فتح نوافذ مختلفة على المجهول والفاتن والملهم

لقد ظلّ مقديش عقوداً من الزّمن يبشّر بالسّعادة ويوهّج حلم الإنسان في عصر الاغتراب والغبن والسّلب، فيما كانت لوحته مخاتلة، أو كأنّ شخوصها مخادعة، وألوانها مهادنة. إنّها تطرح علينا غير ما نراه، بل ترينا ما نحلم به. 

نجح الفنّان في أن يوهّج بداخلنا أفقاً آخر غير ما ندركه على نحو مباشر. وتكمن ميزة مقديش في أنّ لوحته تعيش وتتنفّس تأويليّاً بفضل التّمثّل الرّمزي لواقع لم يقع في العالم حقيقة، بقدر ما وقع داخل اللّوحة في شكل ممكنات أخرى أكثر استجابة لإنسانيّة الإنسان وحيويّة الحياة. وكذا يكون الفنّ معوّضاً للمفقود ومبشّراً بالبهجة المستحيلة. والنّظرُ مستمرّ...


* باحث وتشكيلي من تونس

المساهمون