كان أوّل ما كشفه العدوان الإسرائيلي على غزّة، في ضوء ما أشار إليه الروائيّ البريطاني جورج أورويل في روايته الشهيرة "1984"، في عصر الإعلام الرقمي المعولَم هو واقع قائمٌ يخيّم شبحه لا فوق الغرب فحسب، بل على العالم كلّه، ذلك أنّ هناك اليوم وزارة حقيقة، كما سماها أورويل، تُهيمن على الإعلام الرقمي والاجتماعي: "فيسبوك" و"تويتر" و"إنستغرام" و"تيك توك"، ولا تختلف في رقابتها على الكلمة والصورة عن رقابة وزارات الإعلام في البلدان الاستبدادية.
وبما أنّنا كعرب نستخدم أدوات الإعلام الرقمي، فنحن بالتالي خاضعون لرقابة وزارة الحقيقة الرقمية، ما يعني أنّ الرقابة صارت مزدوجة: رقابةٌ تمارَس على المستوى المحلّي، تمارسها سلطة ما ضمن البلد الذي يعيش فيه الإنسان في أيّ مكان في العالَم، وخاصّة في العالم العربي، ورقابةٌ كونية ضمن الكون الإعلامي الذي صار العربي طرفاً فيه رغماً عن أنف الرقابة المحلّية.
طوّر الاستبداد في منطقتنا العربية، تاريخيّاً، رقابة ذاتية داخل الفرد أدّت إلى ممارسة كمّ الأفواه ذاتياً خوفاً من القمع والملاحقة، فإذا كان الفضاء العامّ مصادراً، ويمنع المواطن من أن يُدلي برأيه في مسائل تمسّ حياته ومصيره في السياسة والاقتصاد والاجتماع، فهذا يعني أنّ الإنسان يعيش في مستوى أدنى من إنسانيته، حيث تنحصر حياته في الانصراف إلى تأمين طعامه واستمراريّته البيولوجية، فيما تُوجَّه ضربة قاضية لبنيته الثقافية والإنسانية، أي للجوهر الذي يعرّفه كإنسان حديث موجود في العالم. وبالتالي يوجد كجِرْمٍ أو رقم أو كتلة، وليس كجسد مشحون بالروح الثقافية التي تجعل منه إنساناً كونياً.
ما يجري الآن على المستوى السياسيّ العالمي هو إعادة إنتاج الدولة البوليسية من خلال الدور الذي يمكن أن تلعبه الشركات الكبرى، لكن بطرق أكثر مكراً، إلّا أنها تكون أحياناً فاقعة وفاضحة، مثل التضييق على أفراد يعلنون على صفحاتهم الشخصية في فيسبوك تضامنهم مع قضية إنسانية ما، أو يقفون ضدّ حرب إجراميّة ظالمة إذا قرّر "سادة العالم" أنّه يجب أن تتواصل، بل يجب أن تُوجَّه العقول كي تفكّر فيها بطريقة محدّدة تنسجم مع توجّهات معينة.
المتحكّمون بتكنولوجيا المعلومات يريدون تعميم الكذب
صار مفكّرون وفلاسفة في الغرب ترجمناهم إلى اللغة العربية وأثّروا في أفكارنا يخافون على أرزاقهم في هذه الشبكة الكونية الخاضعة لرقابة شديدة. ولهذا رأيناهم يخافون من إعلان تضامنهم مع الضحية ويستخدمون لغةً مهادنة وبعيدة عن الحقيقة تُبقيهم على كراسيهم النفعيّة وفي الجامعات التي يبدو أنّها غير معنية بالقضايا الكونية الإنسانية، وأنّها مراكز فكرية تخصّصية لا أكثر.
كانت وزارات الإعلام في العالم العربي بموظّفيها وكوادرها هي التي تدير الخطاب السياسي والاجتماعي والثقافي قبل انتشار الإعلام الرقمي وتطوّراته المذهلة. وكان الخبر يُطبخ على نار التوجّهات الأيديولوجية، وكانت السمة الرئيسة للإعلام هي حجب الحقيقة وطمسها وتصنيع لغة تقوم على التزييف والتدليس والدجل.
إلّا أن هذا النوع من الرقابة الشمولية كان فيه شقوق وأجزاء سائبة من حدوده غير محروسة كلّياً، وكانت المجلّات والكتب والمقالات تُهرّب يدوياً وتنتشر سرّاً بين الأشخاص، وكان بعض الناشرين الشجعان يغامرون ويطبعون الكتب دون العودة إلى رقابة وزارة الإعلام وانتظار ختم الرقابة، إلّا أنّ نقل الرقابة إلى الفضاء الافتراضي أخضع الإعلام لسيطرة أكثر مركزية، ذلك أنّ مجموعة من الأفراد يشكّلون كادراً وظيفياً يمكن أن يوجدوا في أيّ مكان في العالم، عبر تبعيتهم للشركة التي يعملون فيها ويراقبون كلّ ما يُكتب في لغة ما، ويمكن أن نطلق عليهم التسمية نفسها التي ابتكرها أورويل: وزارة الحقيقة.
وبما أنّ عدوان غزّة لا يزال قائماً حتّى الآن، وثمّة تحيّزا أعمى من قبل الشركات والمؤسّسات الرسمية الحاكمة في الغرب، فإنّ عملية رقابة دقيقة تتمّ على كلّ ما يُكتب في الإعلام الاجتماعي. وقد يخسر شخصٌ ما وظيفته إذا تجرّأ وطرح رأياً شجاعاً، أو قد يُغلَق حسابه ويُهكّر ويُحذف وتُمارس عليه حروب إبعاد من الفضاء العام، كما حدث مع كثير من الأفراد.
تطوّرت الرقابة الإعلامية في عالمنا العربي من كونها رقابة على المطبوعات قائمة على القراءة الحرفية لكلّ ما يُكتب إلى رقابة إلكترونية افتراضية قائمة على قراءة مواقع وحسابات الأفراد، كما استفادت الأنظمة القمعيّة من التطوّر التكنولوجي واستوردت تقنيات وأجهزة اختراقية قادرة على حجب المواقع وإغلاقها.
فمثلاً على صعيد المجلّات، كانت وزارات الإعلام في دولة عربية معيّنة تمارس رقابة مادّية قائمة على مصادرة أو منع دخول مجلّات كثيرة مطبوعة، وصارت كلّ وزارة قادرة الآن - حينما تقرّر - على حجب موقع أيّ مجلّة. علاوة على ذلك، فإنّ تحكُّم الدول بشبكة الكهرباء والإنترنت يساعدها أيضاً في خيارات التعتيم وحجب الحقيقة.
يتطوّر عصرنا بخطوات مُذهلة، وصار الكون أخباراً ومعلومات تتدفّق على الشاشات الكبيرة والصغيرة أمامنا، حتّى أنّه يمكن القول إنّ الكون اختُزل في شاشة هاتف نقّال أو حاسوب ويمكن وضعه في الجيب، وصرنا آلات أُخرى تنقر بأصابعها على أزرار الآلات وتلصق أعينها بالشاشات كي تعرف ما يجري في العالم، غير أنّ معرفة حقيقة ما يجري تطرح مشكلة كبرى، إذ إنّنا لا نعرف الحقيقة من الزيف أحياناً، وليس بوسعنا الوصول إلى شهود عيان، بل علينا أحياناً إذا كنّا نعيش في الغرب أن نتعلّم لغة أُخرى كي نسمع الأخبار عمّا يجري في العالم بعيداً عن التحيّز واللعب.
لهذا فسدت اللغة ولم تعد قادرة على نقل الحقيقة. إنّ اللغة التي تتدفّق عبر وسائل الإعلام الرقمي والاجتماعي تمثّل التيار الرئيس، وهي اللغة التي تمكر وتتآمر على الحقائق، بل وتزيّفها وتصنع حقائق وتفرضها على الجميع في تعميم للكذب والنفاق وثقافة الاستسهال.
تحدّث فلاسفةٌ كثيرون عن موت الحقيقة وكان أبرزهم نيتشه قبل وقت طويل من هذا التطوّر المُذهل الذي نعيشه في عصرنا. شكّك نيتشه في قدرة اللغة على نقل الحقيقة من منظار فلسفي، إلّا أنّ اللغة الآن خاضعة لبرمجة منظّمة لتحويلها إلى حامل للأكاذيب. وفي هذا الإطار، قالت الروائية الأميركية توني موريسون في خطاب ألقته بمناسبة حصولها على "جائزة نوبل": "نحن نموت، ربما هذا هو معنى حياتنا، لكنّنا نستخدم اللغة وهذا مقياس حياتنا".
يخضع استخدام اللغة لأيديولوجيا هدفها مصادرة الحقيقة
غير أنّ استخدام اللغة يخضع لصراع أيديولوجي لمصادرة الحقيقة لصالح طرف ما، أي لتحويل أكاذيبه إلى حقيقة، بينما تُحوَّل الحقائق حول ما يجري في العالم إلى مجرّد أكاذيب، كما حين تُصوَّر مقاومة الاحتلال الاستيطاني على أنّها "إرهاب". لهذا وصفت توني موريسون في الخطاب نفسه الإعلام بأنّه "اللاعقل"، الذي يشحن اللغة بالعنصرية والنفاق والاستعلاء والكذب.
وحاجج الفلاسفة الذين كتبوا عن مفهوم الحقيقة في العصر الحديث بأنّ معرفة الوقائع هي التي تدفع أذهاننا إلى تشكيل مفاهيم وتصوّرات حول ما يجري، منذ أن قامت "الوحوش الذكية"، كما سمّاها نيتشه، بابتكار المعرفة على الكوكب الأرضي، لكن هذه الوحوش الذكية تحوّلت معارفها إلى أدوات للإخضاع والهيمنة.
استناداً إلى نيتشه، يمكن أن نغامر بالقول إنّ القوى التي تهيمن على العالم الآن قادرة على تحويل الحقيقة إلى شكل من أشكال العقد الاجتماعي أو "اتفاقية سلام" بين الناس، أي إلى كذبة يُنظر إليها ويجري تداولها كحقيقة، وبالتالي يوظّف الناس الاستعارات المعتادة، ويكذبون بحسب تقليد ثابت، مع القطيع وبطريقة ملزِمة للجميع.
لا شكّ أنّ الذين يتحكّمون بتكنولوجيا المعلومات يريدون تعميم لغة الكذب، وتبرير قتل الأطفال والنساء والشيوخ والمدنيّين الأبرياء ودفنهم أحياء في بيوتهم بصفتهم "إرهابيين" أو "حاضنين للإرهاب"، وأّنهم مجرد "حيوانات" يجب التخلّص منها على مرأى ومسمع العالم، الذي ما يزال ثمّة كثير من أبنائه يصدّقون هذه اللغة الكاذبة ويعملون بمقتضاها.
* شاعر ومترجم سوري مقيم في الولايات المتّحدة