فيتغنشتاين ومهمّة الفلسفة

07 يونيو 2021
لودفيغ فيتغنشتاين
+ الخط -

"كل الجمل والأسئلة التي كُتِبَت حول الفلسفة، ليست خاطئة، ولكن لا معنى لها"، قال الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين، عام 1929، خلال محاضرة ألقاها في بدايات عمله كمدرّس في "جامعة كامبريدج" في بريطانيا. تخيَّل أنّك ممدّدٌ على السرير في غرفة عملياتٍ داخل مشفىً ما، وأنك تنتظرُ عملية جراحيّة حاسمة لاستمرار حياتك. قبيل العمليّة، يقول لك الطبيب، بشكل عابر، إنّ كل الأبحاث الطبّية والممارسات العمليّة في الطب لا معنى لها. هكذا وصف أحد طلاب لودفيغ فيتغنشتاين وقع الجملة أعلاه عليه.

بالنسبة إلى طلّاب "جامعة كامبريدج"، بدت هذه الجملة وكأنها انتحار. العبارة واردة في كتاب "تراكتاتوس: رسالة فلسفيّة منطقية" الذي نشره فيتغنشتاين عام 1921. أحدث الكتاب تأثيرًا معروفًا بِحِدّته في فلسفة القرن العشرين، وموقف فيتغنشتاين الجذري واضحٌ في العمل: الإزالة النهائية لكلّ مشاكل الفلسفة، وإظهار لاجدواها، وكأنها "أمراضٌ" للعقل.

جذور كلّ المشاكل الفلسفيّة تقع داخل اللغة نفسها. في اللغة، نستخدم كلماتٍ هي رموزٌ تشير إمّا إلى أشياء ("شجرة" أو "قطّ"، على سبيل المثال) أو أفعال ("يفكّر" أو "يأكل") أو صفات ("عمق" أو "شراهة"). الأشياء والأفعال والصفات "تحدث" في العالم الواقعي المادّي. نضع هذه الرموز في علاقة أو في "بنية لغوية" مع بعضها، بحيث تُعبِّر عن حقيقة "تحدث"، عن شيء يحصل فعلاً في العالم الواقعي، كعبارتي "يفكّر على الشجرة بعمق" و"يأكل القط بشراهة". البنى اللغوية تشير إلى أشياء موجودة وتحدث في العالم. حتّى إذا حاولت اللغة وصف أشياء خارج العالم (الجنّة أو الحلم مثلاً)، فإنها دومًا ستستخدم كلماتٍ ورموزًا تشير إلى أشياء وأفعال وصفات تقع داخل العالَم نفسه (النار وأنهار الخمر).

مهمّة الفلسفة معالجة العقل بكشف الأسباب الحقيقية لمشاكله

أجساد الكائنات الأسطورية الأكثر غرابة مركّبةٌ من أجساد كائنات تعيش في العالم الفعلي. كلّ شيء داخل اللغة هو داخل العالَم. جرّب أن تتحدّث عن أي شيء تخيُّلي، دون أن تستخدم أيّ كلمة تشير إلى أشياء العالم، والنتيجة معروفة: مستحيل. حدود اللغة هي حدود العالم، وما خارج العالم يقع خارج اللغة. مرّة أخرى: لا توجد كلمات تستطيع أن تصف ما "يقع" خارج العالم، دون أن تجرّه إلى أشياء وأحداث "تقع" داخل العالم نفسه. والموقف المتسّق الوحيد عند الإشارة إلى أيّ شيء خارج العالم هو: الصمت. وهنا بالضبط تُفهم آخر جملة من كتاب "تراكتاتوس": "ما لا يمكن الحديث عنه (والمقصود هنا: ما يقع خارج العالم)... ينبغي الصمت إزاءه".

فيتغنشتاين مارسَ الصمت فعليًا في حياته. يصفه المفكّر الأميركي نيلسون غودمان بأنّه "آخر اتجاه صوفي حقيقي داخل الفلسفة الغربيّة". "تراكتاكوس" مؤلّف من 75 صفحة فقط. الحدّ الأدنى الضروري من الكلمات للإشارة إلى مشاكل الفلسفة وإظهار لامعناها بشكل نهائي. يقول دارسوه إنّ كلّ عالم فيتغنشتاين الفلسفي يُختصَر فعليًا بـ 200 صفحة. كما أنّه يعتمد نظامًا رقَميًا دقيقًا للمقاطع في كتبه. كلّ مقطع هو "قضيّة"، والمقاطع ليست طويلة. قلة الكتابة، مثل قلّة الكلام، اقترابٌ من الصمت.

التعبير عن أشياء تحدث في العالم عن طريق نظام رمزي (اللغة) هي ميّزة بشريّة، يصفها بقوله: "لغة التواصل هي جزء من العضويّة البشرية الحيّة، وهي ليست أقلّ تعقيدًا منها". ولكن اللغة كأداة تواصل، محكومة بـ"النقص" ومفتوحة على "سوء الفهم". ينشأ "سوء الفهم" نتيجةَ كمال الفكرة في الرأس، وقصور اللغة في إيصال هذا الكمال بكامل طاقته. الفكرة تفقد جزءًا من "مثاليّتها" عندما تُقال. و"النقص" قادم من عدم قدرة اللغة على نقل الحدث الذي يقع في العالم الواقعي كما هو تماماً بـ"كليّته". الحدث بـ "كماله" و"مثاليّته". قصور اللغة يظهر بوضوح أمام مثاليّتين: مثاليّة الفكرة في الرأس، ومثاليّة الحدث في الواقع.

جذور كلّ المعضلات الفلسفيّة تقع داخل اللغة نفسها

يورد الفيلسوف مثالاً شهيراً، وهو عبارة: "هذه الجملة خاطئة". مطلوبٌ من هذه العبارة أن تحملً معنى واحدًا فقط، ولكنّها تحمل مفارقة، لأنّ لها معنيَيْن مُتعارضيْن بنفس الوقت. وأعتذر عن بعض الإزعاج الذهني هنا. إذا كانت "هذه الجملة خاطئة" خاطئةً واقعيًا، فهي صحيحة لغويًا، لأنها إشارة صحيحة (داخل اللغة) إلى خطأ (في الواقع). وإذا كانت "هذه الجملة خاطئة" صحيحةً واقعيًا، فهي صحيحة لغويًا، لأنها إشارة صحيحة (داخل اللغة) إلى صِحّةٍ (في الواقع). بدون تعقيد: اللغة تقول "صح" لشيء يمكن أن يكون "صحيحاً" أو "خطأ" في الواقع. العبارة صحيحة قواعديًا ولا غبار عليها، ولكنها لا تشير فعليًا إلى أي شيء في الواقع، لأنها غير قادرة على تحديد وتفريق الصح من الخطأ. العبارة نفسها، إذاً، لا معنى لها (Unsinn)، لأنّ الهدف الأساسي منها (ومن أي بنية لغويّة) هو التفريق والإشارة إلى حقيقة تحدث في العالم الواقعي، وهي غير مؤهّلة لهذه المهمة. 

في الحالات المعقّدة، والفلسفة منها، تصعب رؤية "اللامعنى" داخل اللغة، إذْ تنشأ مشاكل فلسفيّة هي فعليًا فقط مشاكل داخل اللغة نفسها، لا وجود واقعيا لها. ولأنّ هذه المشاكل تبقى بدون حلول، تهاجم العقل وتصبح وكأنها أمراض، وهنا بالضبط مهمة الفلسفة كما يراها فيتغنشتاين: معالجة العقل ومساعدته على الاستشفاء. المعالجة لا تكون بالإجابة عن الأسئلة والمشاكل المعقّدة التي طرحتها الفلسفة، بل إظهار السبب العميق لهذه المشاكل، وهو التناقضات داخل اللغة نفسها. مهمة الفلسفة هي رسم الحدود بين "ما يمكن أن يُقال" و"ما لا يمكن أن يُقال". ليس مطلوبًا من الفلسفة أن تجيب عن الأسئلة، بل أن تكشف "لامعناها" وزيفها.

عاش فيتغنشتاين هذا الموقف الجذري في حياته. خرج من "كامبريدج" مبتعدًا وصار أستاذًا في مدرسة ابتدائية في النمسا. لم يأخذ أية أموال من ثروة والده، الأرستقراطي النمساوي بالغ الثراء. خرج من الجامعة وعاش عزلة حقيقية... لا أحد يبقى في المشفى بعد التعافي.


* كاتب سوري مقيم في برلين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون