تعوّدنا على المقولات التي تربط، منذ عقود، بين تاريخ الفلسفة والبحر المتوسّط. تلك التي يخبرنا من خلالها مؤرّخون بأن فعل التفلسف وُلد في حوض هذا البحر، وتنقّل بين ضفافه، قبل أن تتّسع خارطته ويصبح مشاعاً بشريّاً.
لم تكن مقولاتٌ كهذه مدعاةً للنقاش، وللنظَر، لو توقّفتْ هنا، أي عند تذكيرنا بهذه الحقيقة التاريخية. الإشكال يولَد حين يُعطي البعض فكرة الولادة هذه بُعداً سببياً: أنّ أصل الفلسفة، بل وطبيعتها، متوسّطية. بمعنى آخَر: أنّ ولادة التفلسف على ضفاف هذا البحر كان ضرورةً، بمعنىً ما، وليست صدفةً تاريخية. وكأنّ في هذا البحر، في أمواجه وملحه، أو في الظروف الجغرافية والثقافية والتاريخية التي تجمّعت حوله، ما يدفع إلى التفلسف ــ أكثر من أيّ بحر آخَر ربما.
المفكّر التونسي فتحي التريكي من الذين يذهبون في هذا الاتّجاه، في مقال نشره عام 2014، في مجلّة "شارع ديكارت" الفرنسية، بعنوان "البُعد الفلسفيّ للمتوسّط". ما يريد التريكي قولَه ليس بهذه البساطة أو ذلك التبسيط. بالنسبة إليه، يمثّل المتوسّط فضاءً للانفتاح، للتنقّل والتجوال. وسيرة الفلسفة محكومةٌ، كما يقول، بهذا التجوال. الحديث عن "متوسّطية الفكر" هو حديثٌ، عنده، عن فكر مفتوح، فكر حرّ، يسافر بين أنماط التفكير، والعادات الثقافية والذهنية، ولا ينغلق على نفسه أو على جنس أو شعبٍ بعينه.
ويلاحظ التريكي، هنا، أن الفلسفة كلّما ابتعدت عن منابعها المتوسّطية هذه، اتّجهت نحو فكر "سيستمي"، نحو نظامٍ مغلقٍ ومكتفٍ بنفسه، كما هو الحال في الفكر الألماني (هيغل مثلاً). فكرةٌ تبدو ممتعةً بحدّ ذاتها، ولكنّها تحتمل الكثير من النقاش والأسئلة. فالمتوسّط ليس البحر الوحيد الذي يمكنه أن يُحيلنا إلى الانفتاح والاتصال، إلى التنقّل والتجوال.
قد يكون هذا شأنَ كلّ بحرٍ، أو شأن العديد من البحار والمحيطات والأنهار على هذه البسيطة. كما أن القول بأن الفلسفة انفتاحٌ، وربطها بعد ذلك ببقعة جغرافية واحدة تمثّل ما يشبه طبيعةً لها، قد يقودنا إلى قول عكس ما نريد قوله: أي بأنها، في المحصّلة، منغلقةٌ على هذه البقعة أو الهوية الجغرافية ـ الثقافية، وأنّ كُلّ ما قيل، فلسفياً، خارجها، إنما هو خروجٌ عن "طبيعتها" الأولى.