ما زالت الساحة الثقافية الفلسطينية تراوح مكانها، الانشغالات الثقافية ذاتها، وهمومها الكبرى لم تتجاوز همّ الوجود الذي يأخذ طابعاً هوياتياً بدائياً، وكذلك الأسئلة إياها. لا جديد يذكر ولا قديم يُعاد في دوّامة الهزيمة ذات الرأسين التي تعيشها الساحة الثقافية هذه الأيام، هزيمة وطنية ترزح تحت الاحتلال وتتآكل أمام ضرباته المتواصلة التي تمثّلت أخطاره مرّة بالاستيلاء على الأرض بـ"الضم" (وعليها أن تُقرأ "القضم") ومرة بانكشاف ظهره بموجات التطبيع العربية الأخيرة، وهزيمة صحّية تحت وطأة الجائحة ما زالت دوامة أسئلتها تطنّ في كل مكان.
قد تبدو الجائحة التي ضربت بضبابها الأسود معظم شهور العام 2020 ذريعة ذات قدرة كبيرة على الحمل لكثير من أسباب النكوص والارتداد على صعيد الثقافة في فلسطين، إذ إن معظم مؤسسات الثقافة التي انشغلت بتقديم برامج ثقافية تقوم على فكرة حضور الجماهير قد أقفلت أبوابها مطلع هذا العام، قبل أن تأخذ برامج مثل سكايب وزووم وغيرها من برامج التقانة الرقمية عالم الناس وحياتهم وتستعيض عن الحضور إلى القاعة فكرة المشاهدة والمشاركة من المنزل.
لم تعوّض هذه البرامج كارثية انغلاق الأبواب على صدى صيحات "ابقوا في بيوتكم واحفظوا سلامتكم" وحسب، بل تسبّبت هذه البرامج، وفي كثير من المناسبات، باستسهال إقامة المؤتمرات والندوات عبرها، وهي الفعاليات التي، في كثيرها، حملت الرنّان من العناوين والهائل من الشعارات دون إضافة معرفية تذكر أو إزاحة ولو حتى طفيفة على صعيد المخرجات أو المعالجات التي يبدو أن أحداً لم يطالب أو يسائل منظّميها عن نتائج أو مجريات ما تم تنفيذه هنا وهناك.
لم يخرج المثقف من دوائر الشعور بالخذلان نحو موجات التطبيع
إلا أنه وبالرغم من فداحة العناوين الكبيرة وضآلة مخرجاتها، فإن ما بات يعرف بتقانة الفعالية الثقافية أو الفعاليات الثقافية عبر الفيديو، مكنّت أو دفعت بالفعل الثقافي بكل مكوناته إلى مساحات أكثر رشاقة جعلت من فكرة مناقشة كتاب أو قضية أو حشد رأي حول حادثة أو مسألة أكثر سلاسة من إجراءات ما قبل الجائحة وبالتالي تبدو الوسيلة الجديدة واعدة بالرغم من استسهال كثير من مؤسسات لها.
لم تتوقف آثار الجائحة عند إغلاق المراكز الثقافية وحجب التجمهر والفعاليات وتحديداً تأجيل إقامة معرض الكتاب الفلسطيني، بل تعدّتها إلى تأجيل إصدار الكثير من الكتب وانحجاب وصول الجديد منها إلى الأرض المحتلة بفعل إغلاقات الطوارئ والحجر الصحّي الذي رافق إعلان حالات الطوارئ في معظم بلدان العالم وتحديداً المجاورة منها، الأمر الذي أحال اللحظة الثقافية في إحدى ذروات الجائحة إلى لحظة صِفرية متوقفة قبل أن تعود العجلة إلى الدوران ولو ببطء شديد.
كانت الثقافة الفلسطينية، في بعديها العملياتي والحفري، قد راوحت مكانها في عام الجائحة هذا، وهو العام الذي كان حرياً بالثقافة، لا أن تقدم إجابات، إذ إن الثقافة لا تقدم أجوبة بقدر ما تطرحها بالحفر عميقاً في زوايا مفاجئة تماماً، بل غاب عنها في كثير من أوقاتها منطق المساءلة والمحاججة والتناول من الزوايا الجديدة التي تضيء وتكشف وتجعل من العام الفائت، على سوداويته وغموض مآلاته مسألةً للتأمل وسحب الأدب الفلسطيني والمحلي والعربي إلى مربعات جديدة تقارب الجائحة بالتاريخ مرة، وبالوقائع مرة، وبالاحتلال الجاثم على صدر الشعب مرات، لكن ما يشفع لعدم نضوج التجربة هو أن الجائحة لم تسقط بعد عن ظهر الواقع حتى يتم هضمها أدباً في كل الأحوال.
ثمة بقعة ضوء تمثلت في موقف شريحة واسعة من المثقفين من التطبيع العربي، ضمن مواقف رافضة وبيانات اعتراض وانسحابات متتالية من "جائزة بوكر العربية" لحظة الإعلان عن مرحلة التطبيع الإماراتي الإسرائيلي من مثقفين عرب وفلسطينيين على وجه الخصوص وهي الجائزة التي شارك فيها فلسطينيون كثر، سواءً فائزين أو ضمن لجان تحكيم أو كمراقبين أومتقدمين لها على مدار أعوامها الماضية.
لا تتجاوز ردة فعل المثقف الفلسطيني على موجات التطبيع العربية، إياها، دوائر ضيقة من شعور بالخذلان وسرديات الخديعة والدهشة، هذا ما كشفت عنه مواقف وبيانات وردود فعل، لا التاريخ يسعفه في مطالعة تواريخ انتهاء الدهشات، ولا كثرة جحور الطريق تجعله يكتفي بالجحر الثاني الذي لا يُلدغ المؤمن منه، ويتوقف عنده بالضرورة. لا يقارب المثقف الفلسطيني مأساة الخديعة بملهاة الخلق الجديد والانطلاق والبناء، بل يتوقف هناك، يتوقف هناك مطولاً، ليأخذ العام 2020 فلسطينياً، عنواناً أثيراً مرة أخرى: إنه عام للخذلان والجائحة.
* كاتب من فلسطين