فرنادا ميلتشور.. أعاصير مكسيكية لا تنتهي

08 ديسمبر 2020
(فرناندا ميلتشور)
+ الخط -

إنَّه "موسمُ الأعاصير"، ولقد أطلقوا عليها اسم الساحرة، في قريةٍ متوحّشةٍ بعيدةٍ ونائية في المكسيك حيث الأشياء لا تشبه الأشياء، والمطر يشبه أيَّ شيءٍ إلا المطر، حيث وجدوها مقتولةً في القناة، لكن لا يمكنها أن تموت، إنَّها حيّة في مكانٍ ما داخلنا، شيطانة، لعوب، تتنطّط وتقفز ولا تتوقف عن الثّرثرة. لقد كانتِ السّاحرة تختبئُ في مكانٍ ما من هذا المنزل، محتملٌ في الطّابق العلويّ، حيث لا يمكن أيَّ روحٍ أن تصعد هناك.

بهذه الصور تبدأ الكاتبة المكسيكية فرناندا ميلتشور (1982) روايتها الكثيفة، العميقة، التي صدرت ترجمتها الإنكليزية هذا العام عن دار Fitzcarraldo Editions اللندنية التي تمتاز دائماً باختياراتها الدّقيقة. بسردٍ لا ينضب ولا يهدأ، تسرد حكاية السّاحرة المقتولة من خلال ثمانية فصول مكثّفة دون توقّف، فصول مثل جريان النهر، لا تصمت، وترغمك على الإصغاء بحذر، إنَّها روايةٌ مكتوبة بحسٍّ فنيٍّ عالٍ، بوعي دقيق، حيث بشاعة المضمون وصدق الحالة ودقّة اللغة وتفرُّد الصّور الفنيّة تجتمع في عملٍ روائيٍّ واحد.

تبدأ الرواية بظهور خمسة أشخاص يقفون أمام القناة ويحملق بعضهم ببعض لا نعرف عنهم شيئاً، ومن بعدها تأخذنا ميلتشور إلى حكاية السّاحرة المقتولة في القناة وتفتح لنا عالماً بشعاً، قذراً، يتقيّأ، فيه كلُّ شيءٍ سيّئ ووسخ، يتّضحُ فيه مصيرُ شخصيّات الرّواية وعلاقتهم بالسّاحرة المقتولة. إنَّها رواية عن العنف والقتل والاغتصاب وكلّ شيء بشع لكنّه حقيقي، لقد تمكّنت الكاتبة من إظهار واقع المكسيك الاجتماعيّ والسياسيّ من خلال حكاية تشبه حكايا الجنيات أو ما يعرف بالـ "fairy tale".

رواية عن العنف والقتل والاغتصاب وكلّ شيء بشع لكنّه حقيقي

نصّ ميلتشور ليس عنيفاً في مضمونه فقط، بل في لغته أيضاً، حيث إنَّها تأتي بلغة عنيفة وبذيئة، لكنّها أنيقة ومصقولة وهذه معادلة يصعبُ تحقيقُها، وما يميّز هذه الرّواية بالتحديد هو لغتها، وحين نقول اللغة، نقصد لغة النّص الأصليّ أي الإسبانيّة، حيث إنَّ ميلتشور كتبتْ روايتَها بلغة إسبانيّة مُخترعة ومبتكرة، تجمع ما بين العاميّة والفصيحة، ولغة شوارع مبتكرة على لسان الأبطال، إنَّها لغةٌ تشبه الشّخصيّاتِ والمكانَ بدقّة، لغةٌ متطرِّفةٌ ومؤذيةٌ وصارمةٌ، حيث تطلّبتْ ترجمةُ الرّواية ثلاثَ سنواتٍ متتالية وشكّلت تحدياً، كما تقول مترجمتها إلى الإنكليزية صوفي هوجيس.

أمّا الصّور الفنيّة، فقد أتقنت ميلتشور لعبتَها بحرفيّة عالية، فالمشهدُ في الرّواية يجمع الكثير من المشاهد، والحاضر لا ينفصل عن الماضي والمستقبل، والشّخصيّات كلّها متصلة بالمكان ذاته، بالعنف ذاته، وهناك فصول يتجاوز عدد صفحاتها السّتين أو السّبعين أحياناً. ولعلَّ اللافتَ للانتباه، أنّها الرواية الثانية لمؤلِّفتها، ويرى بعض النقاد أنَّها الأولى فعليّاً، فهي تتمتّع بنضجٍ فنيٍّ وأدبيٍّ خاصّ.

غلاف الكتاب

تقول ميلتشور في لقاء صحافيّ لها إنَّه لولا غابرييل غارثيا ماركيز لما استطاعت كتابة روايتها "موسم الأعاصير"، وأنها تعلّمت منه كيفيّة إتقان كتابة تعدّد الأصوات، وكيفيّة تنقّل أصوات الشّخصيّات، عدا أنَّ قريتَها تشبهُ كثيراً قريةَ غارثيا ماركيز "ماكوندو" في "مئة عام من العزلة"، ونلاحظ أيضاً استخداماً كبيراً للواقعيّة السّحريّة التي تميّز بها كتّاب أميركا اللاتينيّة.

وصلت رواية ميلتشور إلى القائمة القصيرة في جائزة "البوكر" هذا العام، ولكنها لم تفز بها. رواية صريحة جداً ولا توارِب، بل تُظهر لنا المجتمعَ بكلِّ عيوبه ومساوئه.


* كاتب من فلسطين

 

المساهمون