بعد أن قُدّمت باعتبارها يوتوبيا، باتت التكنولوجيا - على ما تقدّمه للبشرية من خدمات - محلّ سؤال منذ أن يواجهها الفكر النقدي وينظر في تبعاتها النفسية والقيمية والبيئية. أسئلة لا تزال بعيدة عن أولويات الانشغال الفكري العربي، وكانت مدار محاضرة بعنوان "أزمة الحضور وفلسفة التعقّل"، ألقاها عن بعد، في الخامس عشر من الشهر الجاري، المفكّر التونسي فتحي التريكي، بتنظيم من قسم الفلسفة في "جامعة بغداد" و"مركز ابن سينا" و"المجمع العربي الفلسفي".
يقول التريكي في مفتتح محاضرته: "يكون الحضور في العالم من خلال التفاعل الإيجابي مع معطيات العصر على المستويات المختلفة؛ اقتصاداً واجتماعاً وثقافة وفكراً. ونعني بالتفاعل الإيجابي المساهمة في التقدّم والإنماء بواسطة الإبداع في المجالات العلميّة والتكنولوجيّة والفنية. يبدو لي أن مبادئ تقدُّمنا الحضاري الآن لا تكمن أساساً في بُعدها التقني، بقدر ما تتموضع داخل تصوُّرات متجدّدة يجب استئناف البحث فيها لتكوين مجتمع متوازن تتطابق فيه عقلنة الذهن والسلوك بعقلنة نمط الحياة في المجتمع، حتى لا يعيش الإنسان الفرد العربي انفصاماً عميقاً بين رفاهة التكنولوجيا وبلادة الذهن وسذاجة الفهم".
يشير التريكي إلى أنّ تاريخ التطوُّر الفكري الذي يُفترض أن يواكب التطوّر التقني عرف مطبّات في السياق العربي؛ حيث "احتدّت النقاشات وكثرت الاصطدامات ولم تستطع المبادئ العقلية والثقافة النقدية المزيد من التغلغل في النسيج الاجتماعي"، بحسب تعبيره. من هنا يخلص إلى موضوع محاضرته؛ حيث يقول: "هناك جوانب عديدة لأزمة حضورنا في العالم لا يمكن حصرها في محاضرة واحدة. سأقتصر على عنصر أعتبره هامّاً يتمثّل في الأغورا الجديدة الناتجة عن الثورة الرقميّة. سأبدأ بتحليل معطيات هذه الأغورا وصولاً للحديث عن أزمة الثّقافة وضرورة النقد وتعيين مطلب التعقّلية".
تُرْجِع الأغورا الجديدة كلّ تفكير إلى شكل من الإشهار
يقول التريكي: "ليس ثمّة شكّ بأنّ الثورة الأهمّ في القرن الأخير هي الثورة الإعلامية الرقمية، ثورة الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا التواصل التي هيّأت، إلى جانب وسائل أُخرى، النّفاذ إلى الثقافة، وإلى الأفكار بواسطة الراديو والتلفاز ثم الحاسوب وبرمجيّاته، ثمّ بواسطة الإنترنت وكلّ ما يمكن أن تتيحه التقنيات الإعلامية بصفة عامّة. فهذه التكنولوجيات الجديدة في الثورة الرقمية الحالية، تُغيّر بشكل ملموس أنماطَ تحصيل المعرفة وإنتاجها ونقلها. لذلك بإمكاننا الآن نشر الفكر وكلّ مكوّنات الثقافة بسرعة لدى جمهور واسع دون حاجة إلى زيارة المكتبات والتنقّل من بلد إلى آخر، وفوق ذلك غدا ممكناً نسج علاقات ثقافية بين أفراد ليس بإمكانهم التلاقي، وإقامة تعاون فعّال بين العقول البشرية والعمل عن بُعد. كما أصبح ممكناً بواسطة هذه التقنيات المتطوّرة تعبئة الأفراد والشعوب وتوجيهها نحو أهداف معيّنة والتأثير في القناعات والاعتقادات".
يضيف: "لقد أتاحت الثورة الإعلامية تطوّراً مبهراً لمسار العقل، على نحو أصبح فيه الناس أعلى قدرةً على تقبّل الأفكار الأكثر تجريداً وتمثّلها بيُسر. ولكنّنا لا ننكر أنّ استعمال هذه الثورة التكنولوجية في أغراض سياسية واجتماعية قد يؤدّي أيضاً إلى تعاسة البشر وهلاكهم، وإلى انقراض العقل وتهوُّر الوجدان. لذلك فتحت هذه الثورة أزمة حادّة في نمط استعمال العقل ولعلّ حضورنا في هذا العالم وإقامتنا في الآنية الحاضرة وكل مستتبعاتهما تجبرنا على البحث والتنقيب في إمكانية تأسيس قواعد أخلاقيّة وقوانين حقوقية للعيش معاً".
محصّلة كل ذلك هي تكوين "أغورا جديدة قد انتظمت وجعلت الأفكار سهلة السّريان والفهم عبر وسائل متقنة، لكنّها تُرْجِع كلّ تفكير إلى شكل من ثقافة الإشهار عبر تبلورها بما هي فكر القرب من المواطن"، بحسب تعبير التريكي.
تسارُع المعلومات يجعلها عسيرة على الفحص قابلة للتصنيع
قواعد لعبة الأغورا الجديدة "قد تضع المواطن في وضعية العجز عن التفكير والاختيار واتّخاذ القرار. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للسفسطائيين الجدد، ونعني "الخبراء" وأهل السياسة والأيديولوجيين عامّة، أن يتدخّلوا في هذه "الأغورا" الجديدة، وهُم يدّعون الاختصاص في جميع أنواع الفكر والممارسات، فيوجّهون الأحكام، ويصنعون الآراء، ويسبكون القرارات، وبذلك يُفسدون كلّ تواصل حقيقي"، كما يقول صاحب كتاب "الفلسفة الشريدة".
لتنظيم هذه الأغورا، يرى التريكي ضرورة توفُّر فكر مؤسَّس على مطلب التعقّلية بما هو شكل أساسي من أشكال أخلاقيّات العيش معاً، بوصفها مجموعة المبادئ التي تقود الفعل الإنساني داخل أيّ سياق، وهي شكل من أشكال الحضور الذي يوضّحه التريكي بالقول: "أعني به قدرة الإنسان على الإقامة في الزمن الحاضر وتأكيد أفعاله وإسهامه في أنماط الحياة". ويتابع: "مع ذلك فإنّ خاصية هذه القدرة تتمثّل في تقييم الإنساني من أجل تمييزه عن غيره، ووضعه في وجود مشترك من خلال علاقات تقارُب مع الآخر ومع الغير. وينبغي على هذه القدرة لتذويت الإنساني من حيث المبدأ، أن تكون أيضاً من خاصيّات وسائل التواصل الجديدة".
يشرح المفكّر التونسي ما يسمّيها "أزمة الحضور"، والتي تتجلى من خلال عدّة أشكال: أوّلها "عزلة الإنسان المعاصر، الذي بقدر ما يكون حاضراً داخل التشكيلات الاجتماعية المكوّنة لعالمه، يجد نفسه في مواجهة وحدة مقلقة. إذ ينفي إنسان التّكنولوجيات الجديدة للتواصل ذاتَه من الحضور الإنساني وهو يقلّب القنوات التلفزيونية، أو يجثم أمام حاسوبه، أو يقرأ جريدته. وينغلق داخل ضربٍ من الوحدة، هي الوحدة السيبرانيّة المهيمنة أكثر فأكثر".
مع كل حدث، بات الإنسان المعاصر ينتظر خبيراً يقدّم له تفسيرات
كما تنشأ أزمة الحضور، بحسب التريكي، "وفق شكل من أشكال غياب العالم المادّي. لأنّ الافتراضي يمكنه أن يضع الفرد ضمن حالة لا يشعر خلالها بالأشياء كما هي عليه في الواقع. فاصطناعية الأشياء والأفراد، وجمود المحيط، وانتظار اللاّمنتظَر والكوارث كلّها تزخرف عالم اليوم برمّته. لقد قام دومنيك لوكور، في كتابه 'ضدّ الخوف'، بإسناد دور مهمّ إلى الفلسفة الراهنة يتمثّل في النضال ضدّ الخوف لكسر هذه الوضعية السياسية الجديدة وإخراج الإنسانية من هذه الأزمة".
أمّا الشكل الثالث لأزمة الحضور فهو "من خلال دعوة الإنسان إلى الإقامة في المراقبة. فالتصاعُد المقلق للرقابة وللعقاب، عبر الاستخدام المشطّ للكاميرات، وللمراقبة الإعلامية وموارد الأقمار الصناعية، والآن بواسطة التلاعب الجيني والتلقيح اعتماداً على تغيير الحمض النووي، تجعل الإنسان قابلاً للتحكّم في بنيته وحياته بسهولة، وتضعه على أيّة حال في وضعية ارتباك، فيصعب عليه أن يختار وأن يمارس حياته بِحريّة".
يلاحظ صاحب كتاب "فلسفة الحياة اليومية" أنه يجدر الانتباه إلى أنّ "الأغورا الجديدة قد جعلت الفكر سهل المنال بوسائل متقنة ومعقّدة"، لكنه يضيف في المقابل: "تحدث أزمة التفكير عندما تتوقّف الكلمة عن أن تكون منفَذاً إلى الحقيقة، وتغدو تقنية ملتوية ومعقّدة لسُلطة معيّنة. عندما هيمنَت السّفسطائية في العصر الإغريقي القديم على "الأغورا"، قامت بتطوير الزيف على حساب الحقيقة، فكان أن اشتغل الخطاب على عكس المعرفة. وعندما كان أفلاطون يتحدّث عن عنف الخطاب، لم يكن يقصد شيئاً آخر غير هذا الاستحواذ على السُّلطة، والذي يتحقّق بالخطابة والجهل بالمعرفة الحقيقية. طبعاً يتقاسم السفسطائي والفيلسوف، بفضل الممارسة الديمقراطية، الفضاء العمومي نفسه، أي "الأغورا"، الذي يسمح بحريّة التعبير. غير أنّهما في علاقة تعارُض تامّ مع العلم ومع الحقيقة. كان الأوّل، السفسطائيّ، يرغب في استمالة الجمهور والإقامة في فكره إذا لزم الأمر، بواسطة صناعة ظنّ (دوكسا) متناسب مع ما يريد بلوغه من هدف، بينما يبحث الثّاني، الفيلسوف، عن قول الحقّ، حسب عبارة ميشال فوكو، أي بناء خطاب فكري وأخلاقي على أسس عقليّة".
عند المرور إلى "الأغورا الجديدة"، يتعلّق الأمر بتنقّل سريع للمعلومة بواسطة الكلمة والصورة التي "يُفترض أن تكون محرِّرة لفضاء الرأي، ولكنّها تغدو بهذه السرعة عسيرة على الفحص، مصنّعة للرأي ومؤثّرة في التوجّهات والقرارات والممارسات. وفي هذه الحالة، نستطيع القول إنّ أزمة الفكر تبلغ أقصاها: فالمواطن لم يعد يعبّر بحرّية عن آرائه وإنّما يستهلك منتوجاً مصنوعاً عبر وسائل الإعلام. فهو لم يفكّر، بل نفكّر له وعوضاً عنه. ونقدّم له بمناسبة أيّ حدث خبيراً يقوم بإعطائه تفسيرات معيّنة وبتوجيهه توجيهاً محدّداً حسب أهداف مضبوطة، مستعيدين بذلك الثنائية القديمة: ثنائيّة العالِم (وهو الآن داخل الفضاء الرقمي، الخبير والإعلامي) والجاهل الذي ينبغي أن نصنع له رأياً".
يتساءل صاحب كتاب "الهوية ورهاناتها": "في هذا الوضع، كيف يمكن تطوير أخلاقيات للفكر الإعلامي؟". يقول: "قد تكون الحكمة الأرسطوطاليسيّة، 'الفرونيزيس'، الحكمة العمليّة، هي التي تسمح بتجنّب المغالاة والتطرّف خلال معالجة المعلومة والمعرفة. وقد أطلقتُ في بعض أعمالي على هذه الحكمة تسمية التعقّلية على خطى الفارابي وكانط ورولز. وحتى أوجز، يمكنني القول ببساطة إنّنا نعتبر العقل - بشكل عام - مبدأ كلّ تفكير نظري. ونعتبر التعقّلية أداة كلّ تفكير عملي يخصّ حياة الإنسان اليوميّة. والإنسان المتعقّل هو الذي يجعل من العقل مرجعاً على نحو تكون فيه أخلاقيّاته مطابقة للعقلانية".
يضيف: "ففلسفة التعقّل بالنسبة إلى الفارابي هي التي تمنح العقل بُعده الاجتماعي طالما أنّه يمكنها أن تكون مصدر نسيج العلاقات مع الآخرين، بما أنّ العقلَ معيارٌ لكلّ إنسانوية. فالتعقّلية إذن مجموع المعايير النظرية والاستعدادات العملية الذي يسمح للإنسان المتعقّل بتأكيد إمكانيّة مطابقة العقل مع حياته اليومية، فيعيش وفق متطلّبات العقل ويكون قادراً على حفظ حياته".
بالعودة إلى سياق محاضرته، يقول فتحي التريكي: "إنّ ثورة الإعلام وتكنولوجيّات التواصل في حاجة إلى أساس أخلاقي من أجل توجيهها توجيهاً إنسانيّاً، ويصبح اللجوء إلى الفلسفة العملية بالنسبة إلى هذه الثورة أولوية". يستشهد المفكّر التونسي، هنا، بالفيلسوف الألماني كانط، حين قال في آخر حياته: "نحن لا نحلم سوى بالأنوار، ونعتقد أنّ العالم يصبح واضحاً كفاية بواسطة نور العقل على نحو يحجب الحماسة إلى الأبد. لكن ها هو الليل وجميع أشباحه تنزل من جديد علينا...". يعقّب التريكي قائلاً: "لا شكّ أنّ كانط قد خصّص النقد لمقاومة هذه الضلالات وهذا الشطط. فلمَ لا نستعيد السؤال الكانطي إزاء هذه الثورة الإعلامية: (ما هو الطريق الذي يجب على العقل اتّباعه؟)، قد يكون طريق النقد والتعقّلية، هذا الطريق الذي يقود إلى الانهمام بالآخر وبالعيش معاً في كنف احترام القول الحقّ".