فاشيّو الأشجار

28 يوليو 2014
شربل عون / لبنان
+ الخط -

يقال إن الحرب تشبه كافكا. الحرب لا تشبه أحداً. فقط تشبه نفسها. وفقط يمكن للغة أدبية محاكاتها، إضاءة زاوية من زواياها التي لا تحصى. أما أن تعكسها في مراياها ومرايانا، فمستحيل. هذا قصارى أية لغة. أي كاتب مهما اجتهد. الحرب هي الحرب. بعيداً عن التشابيه، وحتى عن تولستوي.

سأبدو ثقيلاً على المزاج العام، حين أكتب عن تيتّم الناس من الأشجار. ودليلي ذاكرة كاملة أحملها فوق كاهلي كالقفّة. ذاكرة تبدأ بجدّي لأمي ثم أمي وتعبر ثلاثة أجيال بعدها.. والعَجَلةُ تدور.

في منتصف السبعينات، زارت أمي وأقاربها بلدتهم الأصلية لأول مرة. وأتوا للجدّ بخيرات من أرضه أو "مارِسِه": حبّات برتقال وليمون وجمّيز وشمّام. فرِح ثم مرِض وبعدها بأيام مات. كنت أراه وهو يستلقي ويحضن الثمار ويشمّها ثم يجهش بالبكاء. لم يجرؤ على تناول واحدة منها ولا جعلنا نجرؤ. لقد خبّأها في حضنه، كما لو كانت ثمار من "الفردوس" أو "الذهب".

"مات بحسرتو على خيرو"، قالوا. واحتجت إلى سنوات كي أفهم.

الآن أتذكّر الجدّ الأطرش ومرحه الذي كان يضيء طفولتنا المتقشفة، وأفعل على شجراته مثلما فعل. فقد عرفت ماذا يعني أن تتحوّل "نجد" إلى "سيدوروت". وماذا يعني أن يُقيم أرئيل شارون شخصياً مزارعه الخاصة (بقر وعجول وخرفان)، على نفس الأرض المطوّبة للجدّ.

بحسرته. ما في شكّ.

قبل ذلك، تترسّب إلى الذاكرة آلامُ ما بعد الرجوع، في ذلك الزمن الحزيراني البعيد. كان البيت مهدّماً، والدجاج مقتولاً بالعطش ورصاص الجنود. أما تلك الشجرات السبع الباسقة، فأشلاءٌ تحت جنازير الدبابات.

الفلاحة الأمّ، وقد جرّبت هذا اليتم مبكراً (حين طُردت بليل من حواكير وبيّارات أبيها) لم تُشفَ منه. بالعكس. فالشجرات السبع التي غرستها قبل زمن طويل في مخيّم اللجوء، أعادتها إلى شجرات طفولتها الأوائل. وأتذكّر، أنها تمعّنت في خراب البيت وجثث الأشجار من حولها، ثم انسابت دمعتُها غزيرةً على حين شهقة.

سنوات بعد ذلك، وهي تسترجع سيرة شجراتها، المثمرة منها وغير "البالغة". مَن أعطت الثمر، ومَن كانت على وشيك. لكن هذا جانب صغير من القصة. الجانب الأكبر يكمن هناك في آلاف الذكريات التي "ربّتها" مع الشجر، وما دار بينها وبين أولادها وجيرانها تحت فيئه. قصص وحكايا وشطر من العمر مربوط بملكوت اليخضور.

طبعاً هي لم تكن بالشاعرة ولا ينبغي لها، فقد كانت منذورة لمهام أكبر وأقسى من اجتراح قصيدة.

تعنّ على خاطري هذي الغمامات وأنا أسمع وصف زوجتي لخراب الأشجار في المنطقة الشرقية من خان يونس. لقد مسحوا بجرافاتهم وبصواريخهم ذات اللهب الجحيميّ، يابسَنَا وأخضرَنا فعلاً. البيوت التي من حجارة، سويةً مع الشجر الذي من كرولوفيل. تقول بلغتها الحسّية: "حلقوا الأرض". لم تقل "حرقوا" وهو الوصف الأدق، بل "حلقوا"، كناية عن أنهم حلقوها على الصفر، مثلما كان حلاّقو سور المقبرة القديم يفعلون برؤوسنا الصغيرة.

وتماماً مثلما فعل جنرالاتهم بأحراش تلك الأراضي الشاسعة المحاذية لشاطىء القطاع من دير البلح حتى رفح. تلك الأحراش التي أُزيلت مطالع الثمانينات، وكانت وستظلّ في مخيلتنا رئة هذا الشريط وجنّته الغنّاء. حلقوها على الصفر وأقاموا محلّها المستعمرات والمصانع والفلل الفخمة. حلقوها، وقد عرفت تحت أكاسياها وكيناها أول اللذة، وأول الخربشات، وأول التسامي، وأول كل ما هو أول.

نعم، هذا هو:

فاشيّو البشر والحجر، هم أيضاً وبالضرورة فاشيّو الأشجار.

المساهمون